لغز “لوموند” من بوكوس الأوّل إلى محمد السادس .. قراءة تاريخية وسياسية

0 7٬444

بقلم: رشيد بوهدوز
رئيس اللجنة الأمازيغية بحزب الأصالة والمعاصرة

عندما وصفت صحيفة فرنسية مرموقة الملك محمد السادس بـ”اللغز”، لم يكن هذا مجرد اختيار لغوي، بل انعكاسًا لفشل منهجي في قراءة مؤسسة سياسية ذات جذور تاريخية وأُسس اجتماعية تختلف جذريًا عن النماذج الأوروبية المألوفة. ما بدأ كهامش صوتي بسيط في باريس تم تضخيمه ليصبح محور تقارير اختزلت واحدة من أقدم الملكيات في العالم في مظاهر سطحية: غياب إعلامي هنا، ظهور رمزي هناك، واستنتاج “أجواء نهاية عهد”.

الخطأ الجوهري ليس في التفاصيل الصغيرة، بل في زاوية النظر نفسها. فالملكية المغربية ليست مجرد نظام سياسي يُقاس بمعايير الجمهوريات والممالك الأوروبية، بل امتداد لتقليد سيادي عمره أكثر من ثلاث آلاف سنة، من ممالك أمازيغية عريقة متجذرة في عمق التربة المغربية والوجدان الأمازيغي بدأ بمؤسسة أمغار لآكليد الأب الكبير الجامع للوطن، إنها دول مارست السيادة، سكّت العملة، أنشأت إدارات مركزية، وبنت جيوشًا منظمة، وصولًا إلى الملكية الحديثة التي تجمع بين رمزية الوحدة وقدرة فعلية على إدارة التحولات الاستراتيجية.

ما يراه الخارج غموضًا، هو في العمق استراتيجية مدروسة للاستقرار والتحديث، واستمرارية تاريخية تمنح المغرب قوة فريدة وثابتة في محيط إقليمي مضطرب، وتحوّل ما يُقرأ على أنه “لغز” إلى دليل على حكمة استثنائية واستمرارية سياسية متجددة.

في أصول الدولة- لماذا التاريخ الأمازيغي هو الرد؟

الخلل الجوهري في سردية صحيفة “لوموند” يكمن في نقطة انطلاقها: فهي تبحث عن تفسير في الحاضر العابر، وتقيس قوة الملكية بمدى ظهورها الإعلامي، متجاهلة أن جوهر فهم هذه المؤسسة يكمن في عمق تاريخها. هذا العمق لا يقتصر على التاريخ الموثق فحسب، بل يمتد إلى المخيال الأسطوري للبحر الأبيض المتوسط. فقبل أن يكتب هيرودوت تاريخه بقرون، كانت الأساطير الإغريقية قد وضعت في أقصى الغرب على أرض المغرب ملوكًا جبابرة مثل أطلس وعنتي، وجعلتها موطنًا لحدائق الخلود. في الوعي القديم، كان المغرب أرض السلطة والسيادة، وإن كانت في البداية أسطورية.

لكن وراء الأسطورة، يكشف التاريخ الصلب عن حقيقة سياسية أكثر واقعية، ويؤكد أن الملكية المغربية ليست مفهومًا مستوردًا أو بنية فرضتها ظروف لاحقة، بل هي تتويج لتطور سياسي محلي وعضوي، متجذر في البنية الاجتماعية الأمازيغية نفسها.

لفهم ذلك، يجب العودة إلى ما قبل روما وقرطاج. الفكرة المركزية للسلطة في المغرب بدأت بمؤسسة “الأمغار”، زعيم القبيلة أو الجماعة الذي يُنتخب بالتوافق ويجسد الحكمة والقدرة على التحكيم. هذا النموذج تطور تدريجيًا ليصبح “الأگْلِيد”، أي الملك الجامع، الذي توسعت سلطته لتوحيد مجموعات من القبائل والمناطق تحت راية واحدة. هنا، لم تكن الملكية فرضًا قادمًا من الأعلى، بل استجابة طبيعية للحاجة إلى الوحدة والأمن، مما منحها شرعية تاريخية واجتماعية فريدة.

هذا التطور ليس مجرد نظرية أنثروبولوجية، بل حقيقة تاريخية تجسدت في ممالك قوية مارست السيادة الكاملة على التراب المغربي. الملك بوكوس الأول مثال بارز على ذلك، فلم يكن زعيمًا قبليًا عاديًا، بل رأس دولة لمملكة موريطنية، جعل من طنجة عاصمة له وأدار دبلوماسية معقدة مع القوى الكبرى في المنطقة. تنظيم الإدارة، بناء الجيوش، وإدارة العلاقات الخارجية كلها دلائل على وجود دولة قوية، قادرة على اتخاذ قرارات استراتيجية وحماية استقلالها ومصالحها الإقليمية بفعالية.

لاحقًا، قدم الملك المثقف يوبا الثاني نموذجًا آخر للملكية الأمازيغية، حيث امتزجت السلطة بالثقافة والحضارة. في عهده، ازدهرت مدينة وليلي كحاضرة ملكية ومركز ثقافي وفني، ما يدل على أن هؤلاء الملوك لم يكونوا مجرد حكام، بل بناة دول وحضارات. المدن المنظمة، العملات المسكوكة، والإدارة المركزية جميعها دلائل مادية دامغة على عمق هذا التقليد السيادي.

هذا التاريخ ليس مجرد أثر من الماضي، بل هو الحمض النووي الحي للدولة المغربية، يفسر لماذا يتمتع العرش بإجماع وطني؛ إذ يرى الشعب في الملكية استمرارًا لوظيفتها التاريخية كضامن للوحدة والسيادة، وليس مجرد نظام حكم عابر. تجاهل هذا العمق واختزال النقاش في “غياب إعلامي” يشبه محاولة تحليل شجرة عملاقة من خلال أوراقها المتساقطة، متجاهلين جذورها الضاربة في أعماق التربة.

الملكية المغربية الحديثة- الاستمرارية والقدرة الاستراتيجية

إذا كان التاريخ الأمازيغي هو الجذر، فإن الملكية المغربية الحديثة تمثل الجذع والأوراق المتجددة، القادرة على التكيف مع تحديات العصر. الخطأ الشائع في التحليلات الأوروبية، كما في تقارير صحيفة “لوموند”، هو النظر إلى الملكية المغربية كهيكل هش يعتمد على شخصية الملك وحدها، أو كرمزية جامدة يمكن تقييمها بمعايير الديمقراطية الأوروبية، متجاهلين شبكة العلاقات التاريخية والاجتماعية التي تدعمها.

الملك محمد السادس لم يصل إلى العرش في فراغ؛ إنه وريث لتقليد يمتد آلاف السنين، مع قدرة مثبتة على التكيف مع التحولات الداخلية والخارجية. منذ اعتلائه العرش، تبنى نموذجًا يجمع بين رمزية الوحدة الوطنية والقدرة التنفيذية الفعلية: إصلاحات دستورية، مشاريع تنموية كبرى، وسياسات اجتماعية واقتصادية تهدف إلى تحديث الدولة دون المساس باستقرارها التاريخي. هذه المقاربة لا تُفهم إلا في إطار استمرارية مؤسسة عريقة، وليست مجرد خطوات فردية لرئيس دولة حديث.

القدرة الاستراتيجية للملكية تتجلى أيضًا في إدارتها للعلاقات الدولية. المغرب حافظ على استقلالية سياسية واضحة في محيط إقليمي مضطرب، وعزز موقعه الإقليمي والدولي من خلال دبلوماسية نشطة وتحالفات مدروسة، متجاوزًا أي توقعات ضيقة عن “غياب تأثير” الملكية. مشاريع ضخمة وعابرة للقارات، مثل خطوط الطاقة والبنية التحتية الاستراتيجية، أو تعزيز التحالفات مع قوى دولية كبرى، ليست مجرد قرارات اقتصادية، بل إشارات سيادية تؤكد أن المغرب لم يعد يقبل دور التابع.

على المستوى الداخلي، استطاعت الملكية الحفاظ على توازن دقيق بين المركزية واللامركزية، بين السلطة الرمزية والسلطة التنفيذية، وبين التقليد والحداثة. هذه المرونة المؤسسية تمنح المغرب قوة استثنائية مقارنة بدول المنطقة، حيث تنهار المؤسسات أمام الضغوط السياسية والاجتماعية.

باختصار، ما يراه الخارج أحيانًا “غموضًا” أو “تأرجحًا” هو في الواقع استراتيجية دقيقة: استمرارية تاريخية تمتزج فيها الخبرة بالمراهنة على الحداثة، بما يضمن استقرار الدولة وتعزيز موقعها الإقليمي، دون التفريط في رمزية العرش الذي يظل الضامن للوحدة والسيادة.

إن وظيفة الملكية كعنصر جامع وضامن للاستقرار ليست مجرد أثر من الماضي، بل واقع حي يفسر “الاستثناء المغربي” اليوم. ففي محيط إقليمي مضطرب، يقف المغرب نموذجًا للاستقرار المؤسسي، نتيجة وجود مؤسسة ذات شرعية عميقة، تتجاوز الانقسامات الحزبية والإيديولوجية، وتعمل كمرجعية عليا للدولة والمجتمع. وظيفة “الأگْلِيد” القديمة، التي جمعت القبائل لمواجهة الأخطار، تتجلى اليوم في قدرة الملكية على قيادة الدولة عبر التحولات الكبرى والحفاظ على تماسكها الداخلي.

هذا الاستقرار الداخلي يمكّن المغرب من ممارسة سياسة خارجية مستقلة وواثقة، وهو ما يبدو أنه يثير قلق بعض الدوائر الغربية. ما تسميه الصحافة الغربية بـ”لغز محمد السادس” ليس لغزًا فعليًا؛ الغموض الذي يراه الخارج ليس ضعفًا أو ترددًا، بل تعبير عن ثقة مؤسسة عريقة، تعمل وفق منطق الدولة المستمرة، وليس وفق ردود الفعل الإعلامية العابرة. القلق الغربي الحقيقي لا ينبع من “نهاية عهد” متخيلة، بل من بداية عهد جديد وواضح المعالم: عهد السيادة المغربية الكاملة. ولعل “اللغز” الحقيقي ليس في الرباط، بل في الخارج، حيث يجد الكثيرون صعوبة في التكيف مع حقيقة أن شريكهم التاريخي أصبح فاعلًا دوليًا مستقلاً، يستمد قوته من تاريخ يمتد لآلاف السنين وشرعية متجذرة في المجتمع والتاريخ.

ما بعد “اللغز”- استمرارية السيادة المغربية

ما حاولت بعض الصحف الأوروبية تسميته “لغز محمد السادس” ليس لغزًا مغربيًا، بل انعكاس لفشل المنهج الأوروبي في قراءة واقع سياسي متجذر في التاريخ، ومختلف في أصوله وعمقه عن أي نموذج غربي مألوف. فالمغرب ليس تجربة مؤقتة، بل امتداد لتقليد سيادي وحضاري عمره آلاف السنين، يمتد من ملوك الأطلس الأسطوريين والأمغار الذين وحدوا القبائل، مرورًا بممالك مارست السيادة الفعلية، وصولًا إلى الملكية الحديثة التي تجمع بين رمزية الوحدة والقدرة التنفيذية. وما يُقرأ من الخارج على أنه غموض، ليس سوى حكمة تاريخية واستراتيجية مدروسة لمؤسسة تعلمت كيف توازن بين التقليد والحداثة، وبين السلطة الرمزية والقدرة التنفيذية.

إن قوة العرش المغربي لا تكمن في حضوره الإعلامي العابر، بل في قدرته على تحويل شرعيته المتجذرة في التاريخ والوعي الوطني إلى استقرار داخلي وسيادة خارجية فعالة. ومن بوكوس الأول إلى محمد السادس، يظل الخط الأحمر للملكية واحدًا: توحيد الأمة وحمايتها وقيادتها نحو المستقبل. المغرب، بحضارته العريقة ودوره كمهد للإنسان العاقل ومصدر حضاري للمكتشفات الكبرى، يظل وطنًا ذو جذور قوية، وكيانًا سياسيًا متماسكًا وفاعلًا دوليًا، تكشف أسراره شيئًا فشيئًا للعالم، وفهم هذا الخط هو المفتاح لفهم الحاضر والمستقبل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.