لنكتب تيفيناغ”.. من الانتظار إلى الإنجاز

0 1٬974

رشيد بوهدوز،
رئيس اللجنة الأمازيغية بحزب الأصالة والمعاصرة

حين صدحت حناجر المغاربة بالتصويت لصالح دستور 2011، لم يكن ذلك مجرد إقرار لتعديلات قانونية، بل كان تعبيراً صادقاً عن إرادة جماعية وتوق عميق لبناء مغرب الإنصاف والكرامة، مغرب يعتز بهويته الوطنية الأصيلة التي تشكّلت عبر آلاف السنين، واغتنت بتعدد روافدها الثقافية دون أن يفقد جوهر انتمائه أو يتنازل عن ثوابته الراسخة. وفي قلب هذا العقد الاجتماعي الجديد، جاء الاعتراف بعمق الهوية المغربية بترسيم اللغة الأمازيغية، جنباً إلى جنب مع اللغة العربية، كلغة رسمية للبلاد، وهو الترسيم الذي حظي وما زال يحظى بالعناية المولوية السامية لجلالة الملك محمد السادس، الذي ما فتئ يؤكد على مركزية الأمازيغية كأساس الهوية المغربية، منذ خطابه التاريخي بأجدير.

لكن، بعد مرور سنوات على هذا الإنجاز الدستوري الكبير، لا يزال السؤال يتردد في نفوس الكثيرين من أبناء وطننا وهو تساؤل مشروع: متى نرى لغتنا الأمازيغية، هذا الجزء الأصيل منّا، حاضرة فعلاً في تفاصيل حياتنا اليومية؟ في وثائقنا الإدارية، على واجهات مؤسساتنا، في لافتات شوارعنا، وفي كل فضاء عام يجمعنا؟

من هذا الشعور بالمسؤولية، ومن عمق إيماننا بضرورة ترجمة الإرادة الملكية والتطلعات الشعبية إلى واقع ملموس، ومساهمة منا في هذا الورش الذي نراه من أولوياتنا، انبثقت مبادرة “لنكتب تيفيناغ” التي كان لنا شرف إطلاقها كمناضلي البام خلال دورة مجلسه الوطني الأخيرة. إنها ليست مجرد مشروع لغوي عابر، بل هي إعلان صريح عن التزام سياسي ومجتمعي عميق بالانتقال من مرحلة التوصيات والخطابات إلى المساهمة في الفعل والإنجاز، ومن الاعتراف الرمزي إلى الحضور الحقيقي النابض بالحياة للغة الأمازيغية.

تيفيناغ عنوان كرامة وهوية

المواطنة الحقة لا تكتمل إلا حين يشعر كل فرد بأن الدولة ومؤسساتها تعترف به بلغته وثقافته، وتضمن حضورها الفعلي في كل ما يحيط به. ولأن اللغة لا تترسخ إلا بالاستعمال والحضور المرئي، فإن عدم تعميم الأمازيغية في التشوير الإداري واللافتات العمومية كان يمثل فراغاً لا بد من ملئه. مبادرة “لنكتب تيفيناغ” جاءت لتسد هذه الثغرة، ولتعيد الاعتبار لحق كل مغربي ومغربية في رؤية لغتهم الأصيلة تزين فضاءهم العام، وتخاطبهم بها مؤسسات وطنهم.

ما نسعى إليه يتجاوز مجرد كتابة كلمات بتيفيناغ؛ هدفنا هو بناء علاقة جديدة بين المواطن ومحيطه، علاقة يشعر فيها الناطق بالأمازيغية أن لغته ليست غريبة، وأن كرامته اللغوية والثقافية مصونة. فحرف تيفيناغ ليس مجرد نظام كتابي أو زخرفة، بل هو شيفرة حضارية، وامتداد تاريخي يربط حاضرنا بجذورنا الضاربة في أعماق هذه الأرض، ويحمل ذاكرة وهوية وتاريخاً مجيداً. حين يرى المواطن اسم مرفق أو طريق مكتوباً بتيفيناغ، لا يشعر بالغربة، بل بالانتماء والاعتزاز. وهذه المبادرة هي رسالة لأجيالنا القادمة بأن لغتهم الأم حاضرة، معترف بها، ومكرمة في وطنهم.

رؤية متكاملة ومقاربة عملية

“لنكتب تيفيناغ” ليست شعاراً موسمياً أو حملة دعائية، بل هي مشروع هيكلي متكامل، انطلق من نقاش مسؤول داخل حزب الأصالة والمعاصرة، وتوج بتوافق مؤسساتي ودعم قوي من رئاسة المجلس الوطني. وقد حرصنا، داخل اللجنة الأمازيغية وبتعاون مع باقي النشطاء، على بلورة تصور عملي ومستدام يقوم على أسس واضحة:

• إبرام شراكات فاعلة: مع الجماعات الترابية التي يسيرها الحزب، لتكون سباقة في تفعيل استخدام الأمازيغية بحرف تيفيناغ في التشوير والوثائق والمراسلات الرسمية.
• إحداث خلية وطنية للمواكبة والتتبع: تتولى هذه الخلية مهمة الترجمة الدقيقة إلى الأمازيغية، وتوفير الدعم التقني واللغوي اللازم، وضمان توحيد المعايير.
• إطلاق برامج تكوينية متخصصة: لفائدة المنتخبين والموظفين الجماعيين، لضمان فهم عميق للمبادرة وتنفيذ سليم ومستدام لها على أرض الواقع.
بهذه الآليات، نؤسس لعمل جاد ومستمر، لا لمبادرات ظرفية، عمل يضع الأمازيغية في صلب السياسات الحزبية ويلزم جميع هياكلنا ومنتخبينا بتنفيذها.

من التنوع الخلاق إلى الوحدة المتينة

لقد أثبت تاريخ المغرب العريق أن تنوعه الثقافي واللغوي ليس بتعدد في الهويات، بل هو تعبير عن غنى حضاري داخل إطار وطني واحد متجذر في عمق التاريخ. والمغرب، كأمة ذات هوية راسخة ومتينة، لا يمكنه أن يبني وحدته الوطنية الصلبة إلا على أساس الاعتراف العادل والمتوازن بكل مكوناته الثقافية وروافده المتنوعة. إن العدالة اللغوية، في قناعتنا الراسخة، هي شرط أساسي للديمقراطية التشاركية، ولا يمكن تصور تحقيق تنمية شاملة ومستدامة دون ضمان الكرامة الثقافية واللغوية لجميع المواطنين ضمن وحدة وطنية متماسكة.

العناية الملكية السامية بوصلة ودافع لمبادرتنا

منذ الخطاب الملكي التاريخي بأجدير سنة 2001، الذي شكل منعطفاً حاسماً في مسار القضية الأمازيغية، ظل جلالة الملك محمد السادس، نصره الله، الضامن الأول والداعم الأكبر للمسار المؤسساتي للأمازيغية، سواء في التعليم أو الإعلام أو الثقافة أو التشريع. واليوم، ونحن في حزب الأصالة والمعاصرة نُطلق مبادرة “لنكتب تيفيناغ”، فإننا نعتبر أنفسنا جزأً لا يتجزأ من هذا الجهد الوطني، مساهمين بصدق في تفعيل هذه الإرادة الملكية السامية، وملتزمين بترجمتها إلى خطوات عملية وملموسة على مستوى الجماعات والفضاء ات المحلية التي نتحمل فيها مسؤولية التدبير. فالقضية الأمازيغية، في جوهرها، قضية وطن بأكمله، وهي مسؤولية دولة ومجتمع، تتجاوز أي مزاج سياسي أو ظرفية انتخابية.

دعوة للتعبئة الجماعية من أجل لغتنا وهويتنا

من موقعي كرئيس للجنة الأمازيغية والمسؤولية الملقاة على عاتقي في الإشراف على هذه المبادرة الطموحة، أوجه نداءً صادقاً ومفتوحاً لكل الفاعلين الحزبيين، مناضلات ومناضلين، منتخبين ومنتخبات، للانخراط الجاد والفعال والمستمر في إنجاح “لنكتب تيفيناغ”. كما أمد يدي بكل اعتزاز لباقي الأحزاب السياسية الوطنية والمؤسسات المعنية والمجتمع المدني، من أجل تضافر الجهود والعمل المشترك على تنزيل الأمازيغية على أرض الواقع، ورد الاعتبار الكامل لها.

لنكتب تيفيناغ، لأننا نؤمن بعدالة هذه اللغة وشرعية حضورها في كل مناحي الحياة.
لنكتب تيفيناغ، لأن الهوية الثقافية التي تمثلها ليست مجرد موروث من الماضي، بل أفق رحب لمستقبلنا الوطني المشترك.
لنكتب تيفيناغ، لأن هذه القضية ليست مجرد مطلب، بل هي رمز كرامة أمة بأكملها، وواجب ملك وشعب معًا.
إنها ليست سوى بداية الطريق نحو هدف نبيل، ونحن عازمون على المضي فيه بثقة وثبات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.