البام.. والنيران العابرة للحدود
رشيد بوهدوز
رئيس اللجنة الأمازيغية بحزب الأصالة والمعاصرة
الهجوم المستمر والمتصاعد على حزب الأصالة والمعاصرة منذ تأسيسه لا يمكن فهمه على أنه مجرد سجال سياسي عابر أو تبادل انتقادات ضمن المنافسات الحزبية المعتادة. بل هو، في جوهره، تعبير واضح عن معركة أعمق وأشمل تدور رحاها حول جوهر هوية الدولة المغربية ومستقبلها السياسي والاجتماعي والثقافي. هذا الحزب الذي تأسس في لحظة مفصلية من تاريخ المغرب، بعد تجربة الإنصاف والمصالحة، فهو لم يكن مجرد تنظيم سياسي آخر يسعى لمقاعد في البرلمان أو مناصب تنفيذية، بل كان مشروعًا يحمل رؤية واضحة لمغرب الغد، لبلد حداثي متوازن بين أصالته وهويته الوطنية وبين انفتاحه على متطلبات العصر الحديث.
منذ ولادته، وجد البام نفسه محاطًا بنيران متقاطعة لا تقتصر على خصومه التقليديين في المعترك السياسي، بل تشمل أحيانًا حلفاء ظرفيين يتشاركون مصلحة واحدة تتمثل في إضعاف هذا المشروع الوطني الحداثي. فهناك من ينظر إليه كتهديد مباشر لأجنداتهم وأطماعهم، وهناك من يحاول تشويه صورته عبر حملات إعلامية منظمة وأطروحات أيديولوجية، بهدف استنزاف قوته وتقويض تأثيره. وهذا ما يبرز أن المعركة ليست مجرد صراع على السلطة أو النفوذ، بل هي صراع على تعريف مستقبل المغرب، على الإجابة عن السؤال: ما هو المغرب الذي نريده؟ هل هو بلد يعانق هويته الثقافية والسياسية بجرأة وحداثة؟ أم دولة تغرق في صراعات أيديولوجية مستوردة وتراح كإمتداد لمشاريع عابرة للحدود؟
لفهم هذه الهجمات وفك رموزها، لا يكفي الاكتفاء بالدفاع التقليدي عن حزب سياسي. فالدفاع الحقيقي يبدأ بتحليل معمق يستعرض دوافع هذه الهجمات، ويكشف عن الفاعلين الحقيقيين خلفها، وأهدافهم الاستراتيجية،
سواء كانت أيديولوجية أو مرتبطة بمصالح ضيقة. كما يستدعي الأمر النظر إلى الحزب ليس ككيان منفصل بذاته، بل كممثل لرؤية متكاملة للدولة والوطن، رؤية تأبى أن تُقصى أو تُهمش، وتسعى إلى تأكيد حضورها رغم كل المحاولات الرامية إلى إضعافها.
في هذا السياق، فإن الحديث عن البام هو الحديث عن نقاش وطني عميق يخص مستقبل المغرب كله، ليس فقط كمنافسة حزبية، بل كصراع فكري وسياسي يحدد ملامح الهوية المغربية في ظل تحديات العصر وتطوراته المتسارعة. ولهذا، فإن الدفاع عن الحزب، هو في الأصل دفاع عن مشروع بناء الأمة المغربية المتشبعة بقيم تامغرابيت، أمة تفتخر بتراثها وثقافتها وتاريخها العريق، وتؤمن بقدرتها على الانخراط الفعال في مسيرة الإنسية العالمية.
حين يُوصم حزب الأصالة والمعاصرة بعبارات من قبيل “الحزب الإداري” أو “الصنيعة”، فإن الرد لا يكمن في الشعارات، بل في العودة إلى السياق السياسي العميق الذي سبق ظهوره. فقد كان الحقل الحزبي المغربي، آنذاك، يعيش أزمة بنيوية خانقة، نتيجة عجز القوى التقليدية عن الانخراط في روح العهد الجديد الذي أطلقه جلالة الملك محمد السادس، وهو عهد حمل ملامح مشروع سياسي واضح لتأسيس دولة وطنية حديثة، تقوم على السيادة الداخلية، والانتماء القطري، وبناء أمة مغربية فخورة بهويتها وتاريخها المتنوع.
لكن معظم الأحزاب لم تلتقط هذه التحولات، وظلت أسيرة مرجعيات إيديولوجية مستوردة، أو غارقة في هواجس الماضي، من دون أن تقدم بدائل واقعية أو نخبًا جديدة قادرة على قيادة التحول الديمقراطي والتنموي المنشود. زادت من أزمتها بنيتها التنظيمية المغلقة، التي لم تسمح بتجديد الدماء أو تداول القيادة، فبدت للكثير من المغاربة أشبه بثكنات سياسية منهكة، عاجزة عن الإقناع أو التجاوب مع نبض المجتمع، خصوصًا في ظل صعود جيل جديد يطالب بالفعالية والواقعية والكرامة الوطنية.
في هذا الفراغ، بدأ خطر مدّ أيديولوجي عابر للحدود يتعاظم، مستندًا إلى خطاب ديني تعبوي، لا يعترف بخصوصية المشروع الوطني المغربي، ولا يؤمن بفكرة الدولة القطرية بحدودها السيادية، ولا بمسار الإنصاف والمصالحة كأفق لتصفية تركة الماضي. عند هذه اللحظة، لم يكن تأسيس حزب الأصالة والمعاصرة ترفًا سياسيًا، بل ضرورة فرضتها تحديات المرحلة، لخلق توازن جديد داخل المشهد السياسي، وتقديم بديل حداثي مغربي، يستمد قوته من الأرضية الوطنية، ويعكس تطلعات مجتمع يريد أن يصنع مستقبله بيده، لا أن يُساق في مشاريع دخيلة عليه.
الهجوم على حزب الأصالة والمعاصرة لا يصدر عن جهة واحدة، بل ينطلق من جبهتين متناقضتين أيديولوجيًا، تلتقيان رغم اختلاف دوافعهما حول هدف مشترك هو تقويض الحزب وإضعاف مشروعه السياسي. تمثل الجبهة الإخوانية الطرف الأكثر عدوانية، إذ إن مشروعها القائم على التمكين الأيديولوجي يتعارض جذريًا مع تصور الحزب للدولة باعتبارها فضاءً مدنيًا تعدديًا يحكمه منطق السيادة الوطنية والانفتاح على تنوع المجتمع المغربي. لذلك، شكل حزب الأصالة والمعاصرة منذ نشأته عقبة أمام هذه الجبهة، التي أطلقت ضده حملات ممنهجة استُعملت فيها أدوات التشويه الإعلامي والتأليب الأخلاقي والديني، ودمجت ضمن استراتيجية إقليمية تقودها منابر ومراكز تمويل تسعى إلى إعادة تشكيل المشهد السياسي وفق منطق الاصطفاف العقائدي.
على الجانب الآخر، يبرز تيار يساري نقدي يعارض تدخل الدولة في إعادة هيكلة الحقل الحزبي، لكنه يجد نفسه موضوعيًا في تقاطع مع المشروع الإخواني، لا بسبب وحدة المرجعية، بل بسبب خصومة مشتركة مع الحزب.
هذا اليسار الذي يرفع شعارات الدفاع عن الديمقراطية والحريات، تورط من حيث لا يدري في تحالف ظرفي يخدم أجندات مناقضة لما يعلن، بعدما تحول منطقه الاحتجاجي إلى غطاء يستغله الإسلاميون في تصفية حساباتهم السياسية. وهكذا تبنى الإخوان لغة اليسار الحقوقية لتسويق اتهاماتهم، بينما استثمر اليسار في الزخم الشعبي للإخوان لتبرير صراعه مع ما يعتبره هيمنة سياسية موجهة من فوق.
لكن اعتراض هذا اليسار على الحزب لا ينبع فقط من مواقف سياسية ظرفية، بل يرتبط أيضًا بخلفية ثقافية لا تخلو من التبعية الفكرية للمشرق. فكما يغذي الإسلام السياسي مشروعه من مرجعيات دينية مشرقية، يتغذى هذا اليسار من مفاهيم ونماذج قادمة من سياقات مشرقية لا تنسجم مع الواقع المغربي. لذلك، يشكل مشروع حزب الأصالة والمعاصرة، ومعه تصور “تامغرابيت” كهوية وطنية مستقلة، تهديدًا حقيقيًا لإيديولوجية يسارية ظلت تنظر إلى المغرب كامتداد تابع لقضايا وصراعات المشرق، لا كأمة قائمة بذاتها لها سيادتها وخطابها الخاص.
رغم التباين الجذري بين المشروعين، فإن اشتراك الجبهتين في رفض مشروع الحزب أدى إلى تناغم غير معلن في الأدوار، حيث تمارس الأولى ضغطًا تعبويًا دينيًا يستهدف شرعية الحزب، فيما توفر الثانية خطابًا نقديًا يضفي على الحملة طابعًا نخبويًا وحقوقيًا. هذا التحالف غير المعلن لا يعكس مجرد خصومة حزبية، بل يشير إلى صراع أعمق حول طبيعة الدولة المغربية: هل هي دولة مدنية ديمقراطية تحترم الخصوصية والتنوع؟ أم كيان هش مفتوح أمام التجاذبات الخارجية والاستقطاب الأيديولوجي؟ ومن هنا، لا يمكن فهم هذا الهجوم المركب على الحزب إلا ضمن سياق أوسع يُعاد فيه رسم توازنات الدولة والمجتمع، ويُعاد فيه اختبار التعايش بين الهوية الوطنية والحداثة السياسية. ولذلك، فإن الدفاع عن الحزب لا يجب أن يُفهم كدفاع عن تنظيم، بل كرهان على مشروع يؤمن بالتعدد والاختلاف، ويقاوم منطق الاستحواذ، أياً كان مصدره.
لا ندّعي أن حزب الأصالة والمعاصرة حزب مثالي أو خالٍ من الأخطاء، فقد واجه تحديات داخلية وأزمات عميقة وجروح لم تندمل بعد ولكنه يتم تجاوزها بفضل مناضلين أوفياء تمسكوا برؤية الحزب الأصلية ودعواتهم لمصالحة داخلية أوسع ويعلنون الولاء للمشروع لا للأشخاص.
الأهم أن حزب الأصالة والمعاصرة برهن على قدرته على التجدد والتداول السلمي للقيادات، وهو أمر نادر في الواقع السياسي المغربي. هذا الانفتاح الداخلي يعزز الشفافية والمسؤولية ويمنع احتكار السلطة، مما يعكس نضجًا سياسيًا حقيقيًا. الاعتراف بالأخطاء وتصحيح المسار هو دليل على قوة الفكرة التي تجمعنا، وهي بناء مغرب حداثي وديمقراطي قادر على مواجهة كل التحديات.
السؤال الذي يفرض نفسه في قلب هذا الصراع السياسي هو : لمن يكون الولاء؟ هل للدولة ومؤسساتها، أم للتنظيمات والأجندات التي تضع مصالحها فوق المصلحة الوطنية؟ حزب الأصالة والمعاصرة يؤمن بأن الولاء الحقيقي هو للوطن، للدولة المغربية، وللمؤسسات الدستورية، وعلى رأسها القضاء المستقل. لذلك، يرفض الحزب المشاركة في أي تحركات تستهدف التشكيك في نزاهة المؤسسات أو تقويض سيادتها، مؤكدًا تمسكه بالقانون كقاعدة لأي عمل سياسي.
بالمقابل، شهد المغاربة كيف تجاوزت بعض التنظيمات، خصوصًا الإخوان، حدود الولاء الوطني حين اختارت الولاء للجماعة فوق الدولة، كما عبروا بوضوح عندما رفعوا شعار “لن نسلمكم أخانا”. هذا الموقف يعكس الفلسفة التي ترى الولاء تنظيميًا ضيقًا على حساب الوحدة الوطنية وقوة المؤسسات، كما تصرح الكثير من التنضيمات أن قضايا مشرقية أولى من القضايا الوطنية وعلى رأسها الوحدة الوطنية بل وتجرأ احد الزعماء ان يصف الوطنيين رافعي شعار تازة قبل غزة بنعوت قدحية.
هذا التباين في مفهوم الولاء هو جوهر الصراع السياسي في المغرب، ويفسر استمرار الهجمات على حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يمثل مشروع الدولة المدنية والحداثة. لا ينتهي هذا الصراع إلا بترسيخ مفهوم المواطنة التي تضع المصلحة الوطنية فوق كل اعتبار، وتعزز دولة القانون التي يجمع عليها جميع المغاربة.
إننا اليوم أكثر من أي وقت مضى بحاجة إلى تضافر جهود جميع أبناء حزب الأصالة والمعاصرة، كل من آمن بالفكرة وناضل من أجلها، لنُعيد بناء وحدتنا الحقيقية ونُقوّي حضورنا في الاستحقاقات المقبلة. الطريق نحو قيادة الحكومة وتحقيق مشروعنا الحداثي الطموح، لا يُبنى إلا بالتكاتف الصادق والالتفاف حول الهدف الوطني الواحد.
إنها فرصتنا لنُترجم رؤيتنا إلى واقع ملموس، نداء المشروع الذي حمله رجال غيورون على الوطن منذ عقود، وحلم رفعه الآباء من قبلنا، لبناء وطن نفتخر به ونفخر به جميع أبنائه، وطن يحرر نفسه من قيود الماضي ويحلق عالياً في رحاب المستقبل، محافظًا على كرامة أبنائه وحقهم في العيش الكريم.
ندعو كل واحد من أبناء المشروع، قيادات ومناضلين، أن يعودوا إلى بيتهم الكبير، حاملي الإرادة والعزيمة، متجاوزين ما فات، مستشعرين حجم المسؤولية التي تحملناها جميعًا، ومستعدين لأن يكونوا جزءًا من قوة التغيير الحقيقية التي تقود حزب الأصالة والمعاصرة نحو المستقبل الذي نحلم به جميعًا.