البرلمان الذي نريد. . . العقل الاستراتيجي للدولة

0 1٬349

إن المرحلة التي يعيشها المغرب حاليًا تمثل تتويجًا للعهد الجديد ومشروع “مغرب المستقبل”. إنها لحظة تُرسم فيها ملامح الدولة برؤية ملكية واضحة، وتتجسد في أوراش بناء الدولة الاجتماعية وترسيخ أسس النموذج التنموي الجديد، وصولًا إلى استضافة تظاهرات عالمية كبرى كمونديال 2030. وفي الوقت نفسه، ومع التحركات الجارية لمنح التزكيات للانتخابات القادمة، يزداد النقاش حول البرلمان المغربي وأهميته، ليس كمؤسسة بروتوكولية فحسب، بل كمركز قوة تشريعية قادر على حماية مصالح المواطنين ورفع سقف الديمقراطية في بلادنا. وفي هذا السياق المزدوج، يصبح التفكير جدياً في نوع البرلمان الذي نريد، وكيفية تطويره ليكون أداة استراتيجية للنهوض بالمجتمع ومؤسسات الدولة، وشريكًا حقيقيًا في إنجاز المشاريع الوطنية الكبرى.

غالبًا ما نجد أنفسنا أمام برلمان “رد الفعل”، ينشغل بالسجالات الظرفية ويستهلك طاقته في الرقابة الشكلية التي قد تفتقر إلى قياس الأثر الحقيقي. يتحول النقاش أحيانًا إلى تفاصيل إجرائية هامشية بدل التركيز على جوهر السياسات، وتصبح المساءلة مجرد عرض إعلامي مؤقت بدل أن تكون أداة للمتابعة والتقويم المستمر. ونلاحظ أحيانًا تسابق البرلمانيين نحو عرض عدد الأسئلة المطروحة، دون النظر إلى نوعها أو أثرها الفعلي، مما يجعل المؤسسة التشريعية تبدو وكأنها تدير الأزمات اليومية بدل أن تصنع استراتيجيات المستقبل. هذه الممارسة، وإن كانت جزءًا من العمل الديمقراطي، لم تعد كافية لدولة تضع لنفسها أهدافًا استراتيجية بعيدة المدى.

البرلمان الذي نريده هو برلمان الفعل والمبادرة، مؤسسة لا تنتظر وصول مشاريع القوانين من الحكومة، بل تستشرف المستقبل وتُعدّ ترسانة قانونية اقتراحية ورافعة استباقية لتأطير التحولات الاقتصادية والاجتماعية القادمة. يجب أن تتحول لجانه إلى خلايا تفكير حقيقية، ويكون نوابه خبراء قادرين على تحويل تحديات الميدان إلى حلول تشريعية مبتكرة، مستعينين في ذلك بأدوات التحول الرقمي، من تحليل البيانات الضخمة لفهم أثر القوانين، إلى إطلاق منصات تشاركية لإشراك المواطنين في صياغة التشريعات.

برلمان المونديال

إن “برلمان المونديال” هو التوصيف الأكثر دقة للتصور الذي نرنو إليه لمؤسستنا التشريعية، والتي ستتحمل مسؤولية متابعة وإنجاح رهان تنظيم المونديال. يقوم هذا البرلمان على فلسفة واضحة ترتكز على تحديد الأهداف، والكفاءة، والالتزام بجدول زمني دقيق. يرتبط وجوده بالأهداف الوطنية الكبرى، ويُقاس نجاحه ليس بعدد ساعات الجلسات أو كمية الأسئلة الشفوية، بل بمدى مساهمته الفعلية في إنجاز المشاريع على أرض الواقع.

ولتكون الرقابة فعالة، يجب أن تنتقل من سؤال “ماذا فعلت الحكومة؟” إلى سؤال “ما هو الأثر الحقيقي لما تم إنجازه؟”. وهذا يستلزم تفعيل آليات تقييم السياسات العمومية بشكل مؤسسي، لتصبح جزءًا لا يتجزأ من عمل اللجان البرلمانية، التي ينبغي أن تستعين بالخبرات المستقلة وتقارير المجلس الأعلى للحسابات لتكوين رؤية علمية حول مدى نجاعة القوانين والبرامج الحكومية. هل ساهمت القوانين المالية في تحسين مناخ الاستثمار فعلاً؟ هل واكبت التشريعات الاجتماعية ورش الحماية الاجتماعية بالسرعة والفعالية اللازمة؟

التمثيل الجغرافي والديمغرافي أساسي، لكنه يجب أن يتكامل مع تمثيل الكفاءات. على الأحزاب السياسية مسؤولية تاريخية في تقديم مرشحين يجمعون بين الشرعية الانتخابية والخبرة العملية والثقافية. البرلمان الذي نريد هو مرآة للمجتمع، ليس فقط في تنوعه السكاني والجغرافي، بل في تنوع خبراته وعقوله.

فتح المجال أمام الكفاءات والشباب من مختلف المناطق ليس مجرد مطلب تمثيلي، بل وسيلة استراتيجية لخلق نخب جهوية قادرة على صقل خبرتها السياسية وتحمل مشعل الجهوية المتقدمة، لتضمن نجاح هذا الورش الدستوري الحيوي. وجود كفاءات وطنية عليا في مجالات التخطيط والمالية والتدبير داخل البرلمان هو الضمانة لصياغة قوانين إطار تمنح الجهات صلاحيات حقيقية وموارد كافية، بدل قوانين مركزية تفرغ ورش الجهوية المتقدمة من محتواه.

إن منح هذه الفرص، وتمكين هذه النخب الجهوية من ممارسة السياسة، هو السبيل لتكوين قيادات جهوية متكاملة تعالج التفاوتات المناطقية، وتكسر واقع مغرب السرعتين، وتضمن تناغم السياسات الوطنية مع طموحات الجهات، بما يدعم التنمية المحلية ويضع الجهوية المتقدمة في قلب النموذج التنموي الجديد.

والبرلمان الذي نريده لا تنحصر رؤيته داخل الحدود الوطنية. فهو فاعل أساسي في الدبلوماسية البرلمانية الموازية، يواكب التوجهات الملكية في السياسة الخارجية، ويدافع عن مصالح المغرب العليا في المحافل الدولية، ويُسهم في بناء شراكات استراتيجية. سواء عبر المصادقة المدروسة على الاتفاقيات الدولية التي تفتح أسواقًا جديدة للاقتصاد الوطني، أو عبر إنشاء تحالفات برلمانية تدعم قضايانا الوطنية العادلة، أو عبر تبادل الخبرات التشريعية مع الدول الشقيقة والصديقة، خصوصًا في إفريقيا، يصبح البرلمان قوة اقتراح ودعم حقيقية للسياسة الخارجية للمملكة، ويجعل من المؤسسة التشريعية جزءًا لا يتجزأ من العقل الاستراتيجي للدولة على الصعيد العالمي.

إن بناء هذا النموذج البرلماني ليس مجرد سياسة شكلية، بل ضرورة وطنية تفرضها تحديات الحاضر وطموحات المستقبل. المغرب اليوم على مفترق طرق: إما أن تنجح مؤسساته في التحديث لمواكبة سرعة رؤيته التنموية، أو تظل عقبة أمام تحقيق طموحاته. إنها مسؤولية جماعية تبدأ من الأحزاب بتقديم الكفاءات، مرورًا بالناخبين باختيار الأصلح، وصولًا إلى النواب لتحمل الأمانة التاريخية. لنساهم جميعًا في بناء برلمان المغرب الذي يستحقه شعبه وطموحاته الكبرى.

رشيد بوهدوز
رئيس اللجنة الأمازيغية بحزب الأصالة والمعاصرة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.