الجهوية المتقدمة وجيل التحول: قراءة في تقاطعات الخطاب الملكي واحتجاجات جيل Z بين رهانات العدالة المجالية وإعادة توزيع السلطة الترابية

0 872

منذ إقرار دستور 2011، ظل مشروع الجهوية المتقدمة أحد الأعمدة الكبرى في رؤية الدولة المغربية لبناء نموذج تنموي متوازن يحقق العدالة المجالية ويعيد توزيع السلطة والموارد بين المركز والجهات.

لكن بعد أكثر من عقد من الزمن على هذا الورش، يبدو أن الواقع لا يزال دون مستوى الطموح. فجاء خطاب جلالة الملك محمد السادس نصره الله بمناسبة عيد العرش لسنة 2025 ليعيد النقاش إلى الواجهة، متزامنا مع بروز احتجاجات جيل Z خلال شهر سبتمبر 2025، والتي كشفت عن تحولات عميقة في بنية الوعي السياسي والاجتماعي للمغاربة، وخصوصا فئة الشباب.

هذه التقاطعات بين الخطاب الملكي، والاحتجاجات الشبابية، والرهانات المجالية، تفتح الباب أمام قراءة جديدة للعلاقة بين الجهوية المتقدمة كإصلاح مؤسساتي وجيل Z كقوة اجتماعية ناشئة تطالب بإعادة توزيع السلطة والفرص والخدمات وفق منطق المساواة والكرامة الترابية.

جاءت الجهوية المتقدمة في المغرب كمشروع لتجاوز الاختلالات التاريخية بين الجهات، ولتحقيق تنمية تعتمد على الخصوصيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لكل منطقة. فالمغرب ليس كتلة متجانسة، بل فسيفساء من المجالات الغنية بتنوعها، من السهول الساحلية إلى المناطق الجبلية والصحراوية، ولكل منها حاجياتها وتحدياتها الخاصة.

رغم ذلك، فإن التنزيل العملي للجهوية ظل في كثير من الأحيان محكوما بمنطق إداري أكثر من كونه سياسيا أو ديمقراطيا.

فالمجالس الجهوية ما تزال محدودة الصلاحيات، وتعتمد ماليا على تحويلات الدولة، دون استقلال حقيقي في القرار أو قدرة على صياغة سياسات عمومية جهوية مبدعة؛ وهو ما يجعل الجهوية المتقدمة في صورتها الحالية أقرب إلى لامركزية إدارية موسعة منها إلى حكم جهوي فعلي.

إن التحدي الحقيقي اليوم لا يكمن في هيكلة المؤسسات الجهوية بقدر ما يتمثل في بناء نخب جهوية قادرة على التفكير المحلي وصناعة القرار الترابي، لأن العدالة المجالية لا يمكن أن تتحقق بقرارات مركزية فقط، بل بتمكين الجهات من أن تصبح فاعلا رئيسيا في التنمية.

في خطاب عيد العرش لسنة 2025، دعا جلالة الملك محمد السادس إلى تسريع وتقييم ورش الجهوية المتقدمة، مؤكدا أن العدالة المجالية ليست مجرد مطلب تنموي، بل هي أساس متين للتماسك الوطني والاجتماعي. وأكد جلالته على أن التفاوتات بين الجهات لا تُعالج بالخطابات أو بالإجراءات الظرفية، بل بإصلاح هيكلي يضمن لكل جهة حقها في التنمية والازدهار وفق مقوماتها الذاتية. كما أشار الخطاب الملكي إلى أن الوقت قد حان لتوسيع مفهوم الجهوية ليشمل القطاعات الحيوية الثلاثة: التعليم، الصحة، والتشغيل، عبر آليات تدبير لا مركزية تتيح لكل جهة تصميم سياساتها القطاعية في انسجام مع خصوصياتها السوسيو-اقتصادية.

هذا التحول المفاهيمي من الجهوية الإدارية إلى الجهوية القطاعية والوظيفية يجعل خطاب 2025 نقطة مفصلية في مسار الإصلاح الترابي بالمغرب، وهو في الوقت نفسه جواب استراتيجي غير مباشر على الاحتجاجات الشبابية التي اندلعت بعد الخطاب بأسابيع قليلة، في شهر شتنبر، لتعبر عن عطش جماعي للعدالة والكرامة والفرص المتكافئة.

شكلت احتجاجات جيل Z في شتنبر 2025 لحظة فارقة في المشهد السياسي والاجتماعي المغربي؛ فخلافا للأجيال السابقة، لم تكن هذه الاحتجاجات مؤطرة حزبيا أو نقابيا، بل قادها جيل رقمي، متشبع بثقافة عالمية، ومتمرد على الأساليب التقليدية للتعبير والمطالبة؛ لم يرفع هذا الجيل شعارات أيديولوجية أو مطالب سياسية صريحة، بل عبر عن رفض عميق للإقصاء المجالي والاجتماعي، وعن إحساس بعدم تكافؤ الفرص بين الجهات، خصوصا في مجالات التعليم الجيد والرعاية الصحية وفرص الشغل الكريم.

جيل Z في المغرب هو أول جيل ولد ونشأ في ظل الجهوية المتقدمة ودستور 2011، لكنه لم يلمس بعد ثمارها؛ لذلك جاءت احتجاجاته كتعبير عن خيبة أمل في الوعود التنموية، وكدعوة لإعادة النظر في كيفية تدبير السياسات العمومية من منظور جهوي حقيقي.

لقد أعادت هذه الاحتجاجات طرح سؤال عميق حول ما إذا كانت المشكلة في النموذج التنموي الوطني نفسه، أم في عدم تفعيل الجهوية كآلية لتقريب القرار من المواطن.

إن جيل Z يطالب اليوم بنقل فعلي للسلطة والمسؤولية إلى الجهات، بما يجعل السياسات العمومية تصاغ وتنفذ من داخل الميدان، لا من المكاتب المركزية في الرباط.

إن التفكير في جهوية الصحة والتعليم والتشغيل لم يعد ترفا فكريا، بل ضرورة وطنية، ففي قطاع الصحة، يمكن لكل جهة أن تطور منظومتها الطبية وفق حاجياتها السكانية والجغرافية، مع إشراك الجماعات المحلية والمجتمع المدني في التدبير لضمان كفاءة الموارد وتحسين الخدمات.

وفي قطاع التعليم، من المنطقي أن تصاغ المناهج والبرامج جزئيا بما يتلاءم مع الخصوصيات الاقتصادية والثقافية للجهة، مع الحفاظ على الإطار الوطني الموحد لضمان مستوى موحد من الجودة.

أما في قطاع التشغيل، فيجب أن تتوفر كل جهة على استراتيجيات تشغيل جهوية تراعي واقع سوق العمل المحلي، وتشجع على الابتكار وريادة الأعمال، وتربط بين التعليم ومتطلبات الاقتصاد الجهوي. لتعزيز هذه المقاربة، يمكن إحداث برلمانات جهوية منتخبة ديمقراطيا بصلاحيات محدودة، لتصبح منصات حقيقية لصنع القرار المحلي وربط السياسات بالمساءلة الشعبية، مع إمكانية إشراك الشباب والفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين في صياغة الاستراتيجيات الجهوية.

ولتفعيل هذه الجهوية القطاعية بشكل عملي، يمكن اعتماد مجموعة من التوصيات:

– خلق يرلمانات جهوية،
– تجهيز الجهات ببيانات محينة ودقيقة عن حاجيات السكان في الصحة والتعليم والتشغيل لتوجيه السياسات المحلية بفعالية،
– إنشاء صناديق جهوية للتنمية تمول مشاريع تعليمية وصحية ومهنية حسب أولويات كل جهة،
– وتفعيل شراكات بين القطاع العام والخاص والمجتمع المدني لضمان تنفيذ المشاريع بشكل يراعي خصوصيات كل جهة.

كما يجب إشراك الشباب، خصوصاً جيل Z، في المجالس واللجان الجهوية لضمان تلبية مطالبهم وإدماجهم في عملية اتخاذ القرار، وربط التقييم والمساءلة بالتنفيذ عبر مؤشرات أداء واضحة لكل جهة، بحيث يمكن قياس نجاح الجهوية في تحسين العدالة المجالية والفرص المتاحة لكل ساكنة.

لقد أظهرت احتجاجات شتنبر 2025 أن جيل Z لم يعد يطالب بالتغيير من الهامش، بل من الداخل، من داخل الفضاء الوطني المشترك؛ إنه يطالب بعدالة مجالية حقيقية، وبجهوية متقدمة تكون مرآة لعدالة اجتماعية واقتصادية، لا مجرد هيكل إداري، إذا كانت الجهوية المتقدمة مشروع الدولة، فإن جيل Z هو مشروع المجتمع؛ والتقاء المشروعين هو وحده الكفيل ببناء مغرب جديد: مغرب الجهات المتوازنة، والمواطن الفاعل، والدولة المنفتحة على ذكاء أجيالها.

– إيمان الماجي، عضو المجلس الوطني لمنظمة شباب الأصالة والمعاصرة، طالبة باحثة في سلك الدكتوراه.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.