الدولة الاجتماعية : إجابة علمية على توتاليتارية النموذج الاشتراكي و تغول النيوليبرالية

0 345

الاشتراكية الكلاسيكية ولدت في حضن الرأسمالية الصناعية كخطاب احتجاجي راديكالي، لا بوصفها مجرد بديل اقتصادي، بل كمحاولة لبناء نظرية مادية تفسر التاريخ وتوجه الفعل السياسي نحو لحظة تحرر كلية تلغى فيها الملكية الخاصة ويذوب فيها المجتمع الطبقي في أفق شيوعي متخيل، غير أن مأزق هذا التصور لم يكن في طموحه إلى العدالة بل في بنيته الأنطولوجية التي اختزلت الإنسان في علاقاته الإنتاجية وألغت تعدده الوجودي لصالح تحديد أحادي هو الموقع الطبقي، وهو ما أنتج نظرة اختزالية للتاريخ لا ترى في الثقافة والدين والرمز واللغة سوى بنيات فوقية تعكس مصالح البنية الاقتصادية، وبذلك استبدل الإنسان الحر بالفاعل الطبقي، واستبدلت الإرادة السياسية بالحتمية التاريخية، وتم تشييد بناء سياسي مغلق يجعل الدولة مجرد أداة انتقالية لا تحمل قيمة في ذاتها، ما أدى إلى ظهور دولة متضخمة بيروقراطية تحتكر أدوات الإنتاج والمعنى في آن، فصادرت التعدد باسم الوحدة وأجهزت على الحرية باسم العدالة وأنتجت أنظمة سلطوية مقنعة بشعارات التقدم والمساواة، وبهذا المعنى فالمشكلة في الاشتراكية الكلاسيكية ليست فقط فشلها الاقتصادي أو إخفاقها السياسي بل ضعف تصورها للإنسان وللحرية وللتاريخ، وهو ما يجعل نقدها لا ينطلق من موقع الدفاع عن الرأسمالية وإنما من موقع يرفض كلا من الاستغلال الاقتصادي للنيوليبرالية والتجريد المادي للاشتراكية المغلقة، في هذا السياق تبرز الدولة الاجتماعية لا كحل وسط أو تسوية إدارية بين السوق والدولة، بل كتصور سياسي فلسفي يؤسس لوظيفة جديدة للدولة تدمج بين مبدأي الحرية والمساواة وتعلي من شأن العدالة كقيمة مهيكلة للشرعية، فليست الحرية مجرد غياب للتدخل، بل قدرة فعلية قائمة على شروط اجتماعية مضمونة، وليست المساواة تسوية قسرية للمواقع بل تمكين فعلي للجميع من الولوج إلى فرص الحياة الجيدة، ومن هنا تصبح الدولة الاجتماعية ليست مجرد مزود خدمات بل فاعلا أخلاقيا يؤطر السوق ويوجه الاستثمار ويراقب التوزيع ويضمن تكافؤ الشروط، لا لتصحيح اختلالات طارئة بل لتأسيس التعاقد على قاعدة الإنصاف، وهنا يجب التمييز بين الدولة الاجتماعية كنسق سياسي عقلاني ينبني على مركزية الحقوق الاجتماعية بوصفها أركانا تأسيسية للمواطنة، وبين الرعاية الزبونية التي تحول الدولة إلى ملجأ موسمي للفئات الهشة دون استراتيجية تحصين بنيوي ضد الإقصاء، إن الدولة الاجتماعية تفترض فهما مغايرا للسلطة لا يجعل منها جهاز سيطرة بل اداة توازن، ولا يحيدها كما تفعل الليبرالية المتوحشة بل يضبط وظيفتها في أفق خدمة المصلحة العامة، إنها تعيد تعريف الفعل السياسي نفسه كمساحة لتوزيع عادل للموارد الرمزية والمادية، وتجعل من السياسات العمومية ترجمة ملموسة لقيم العدالة لا مجرد استجابات ظرفية للضغوط، وفي السياق المغربي حيث ورثت الدولة شرعية تاريخية تتجاوز التعاقد القانوني المجرد، تطرح الدولة الاجتماعية كأفق لتحديث تلك الشرعية لا عبر القطيعة مع التاريخ بل بإعادة تأويله في ضوء حقوق جديدة غير قابلة للتفاوض، حقوق تجعل من الصحة والتعليم والسكن والعمل ليست امتيازات ظرفية بل تعبيرا عن مواطنة كاملة، وهنا يكمن البعد الثوري الهادئ في الدولة الاجتماعية:

إنها لا تهدم بل تعيد بناء الوظيفة السياسية للدولة على أسس معيارية عقلانية، تخضع السوق للرقابة المؤسساتية وتعبد للمجتمع قيم التضامن والكرامة وتنقذ الحرية من التفكك داخل لامساواة معممة، إننا لا ندعو إلى تقويض السوق ولا إلى احتكار الدولة بل إلى عقلنة العلاقة بينهما ضمن تصور يجعل من الإنسان لا الربح مركز الغاية، ويعيد للاقتصاد مكانته كوسيلة ضمن مشروع حضاري قائم على الإنصاف، وفي هذا المعنى لا تفهم الدولة الاجتماعية كمجرد سياسة بل كأفق فلسفي يعيد تأسيس السياسة نفسها على مبدأ أخلاقي مدني حديث، يتجاوز أخطاء الاشتراكية الكلاسيكية وانحرافات النيوليبرالية ويصوغ طريقا ثالثا يقوم على دمج الكفاءة بالعدالة والحرية بالتمكين والمجتمع بالدولة دون ابتلاع أحدهما للآخر.

حمادة لحبابي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.