الكلاب ومستقبل البشرية بعد “كوفيد 19”

0 1٬016

بوطيب عبدالسلام*

بشكل غير منتظر انتهى عالم السياسية الأمريكي أيان بريمير في حواره الصحافي الشيق، الذي تابعه الملايين من البشر عبر العالم يوم 29 أبريل 2020، مع الصحافية اليابانية اللامعة DodenAiko، التي تشتغل لفائدة قناة NHK WORLD-JAPAN، إلى ضرورة أن يكون لكل منا كلبه، لأن الكلاب في نظره ممتازة، وتساهم في تغيير أفكارنا، وتساعدنا على الهدوء أكثر، ناصحا الإنسانية بتغيير طرق عملها وتفكيرها دون التخلي عن إنسانيتها.

ولا أعرف ما إذا كان أيان بريمير قد خطط لإنهاء حواره بهذه الدعوة، أو أن هجوم كلبه على القاعة التي كان يحاوره منها الصحافية اليابانية هو سبب توصيته هذه للملايين من المفكرين والمثقفين الكبار الذين تابعوه عبر العالم.

أثارت انتباهي فكرة الاهتمام بكلب، ووجدتها لأول مرة فكرة مغرية إذا كانت لها كل المنافع التي ذكرها هذا المحلل الأمريكي، الذي هو عالم سياسي من مواليد سنة 1969 مختص في السياسة الخارجية الأمريكية، وهو رئيس ومؤسس الجمعية الأوروبية الآسيوية، وأستاذ البحث العولمي في جامعة نيويورك.. له مؤلفات كثيرة من بينها “نهاية السوق الحرة: من الذي يربح الحرب بين الأمم والشركات”، و”المنحنى جي: طريقة جديدة لنهوض الأمم وسقوطها”. لكن سرعان ما وقعت في وضع فكري شديد التناقض وأنا أتذكر أن أول مجزرة شهدتها بلادي إبان بداية الأزمة الناتجة عن “كوفيد 19” هي إقدام رئيس بلدية غير إنساني على توجيه أمره إلى عمال البلدية بقتل جميع كلاب منطقة “سلطته”، ودفن هذه الحيوانات الأليفة في مقبرة جماعية بشكل بشع. وتم تصوير الجريمة وإذاعتها في العالم الأزرق كـ”إنجاز تاريخي لهذه الجماعة”. ومازلت أتذكر أن جروا كان حيا ورمي في الحفرة مع جثث آبائه وهو حي ينبح بصوت يكاد لا يسمع. وقد أثار هذا المشهد الرهيب “مواطني العالم الأزرق”.

لقد كان أيان بريمير ذكيا عندما اختار ختم حواره بنصيحته هذه، وبنقد لاذع لمسألة الحجر، التي قال عنها إنها ليست إنسانية، لأن الإنسان في حاجة ضرورية إلى علاقات التواصل مع بني جلدته، ما أعطاه نكهة خاصة وجعل الناس يهتمون به أشد الاهتمام، فقد أصبح بريمير وجاك أطالي وجوفال نووا هراري، من الذين يؤثرون بشكل كبير على كثير من المفكرين في العلوم السياسية وعلوم الاقتصاد والتنظيرات المستقبلية. وقد لاحظت أن كل من كتبوا عن الجائحة وتداعياتها لم يعملوا إلا على تكرار ما قاله هذا الثلاثي، فإذا أرادوا الحديث عن مستقبلنا الاقتصادي بعد الجائحة كرروا كلام جاك أطالي، وإذا أرادوا الحديث عن مستقبلنا السياسي بعد الجائحة كرروا كلام أيان بريمير، وإذا أرادوا التنظير السياسي كرروا المؤرخ يوفال نواح هراري .

وكثير من المفكرين الكبار في بلدنا، وفي البلاد التي جعلت العربية لغتها الرسمية، ساروا على نفس النهج ولم يعملوا إلا على إعادة ما كتبه هذا الثلاثي المتنور.

في هذا المقال، سنحاول تقديم مادة الحوار الذي استخرجناه من موقع القناة المذكورة أعلاه، والتي قدمته مترجما إلى أربع لغات هي الفرنسية والإسبانية والإنجليزية والصينية، وسنقدم حوله الملاحظات الضرورية في انتظار أن نعمل الأمر نفسه مع ما قاله كل من جاك أطالي ويوفال نواح هيراري، على أن ننتهي بما يجب أن ننتهي إليه من استنتاجات وخلاصات، لأن هذه الحوارات أساسية جدا لفهم ما جرى، وما سيجري، خاصة أن الثلاثة انتهوا إلى أن العالم ذاهب في اتجاه أن تعتمد كل دولة كلية على ذاتها لإنقاذ نفسها من الانعكاسات الخطيرة للجائحة التي ضربت العالم، ما سيساعدنا نحن المغاربة على التفكير الجماعي في الصيغ الملائمة لمساعدة بلدنا على مواجهة تحديات المستقبل القريب، والخروج من هذه الأزمة أكثر قوة، وأكثر وحدة وعزيمة على السير نحو البلد الذي نستحقه ونأمله.

أكد أيان بريمير في حواره الذي تابعه ملايين البشر أن العالم يمر بأزمة خطيرة جدا، وهو بدون قيادة دولية، وكل أراء الدول ومواقفها مما يقع منقسمة بشكل لم يسبق له مثيل.

ولفهم أعمق للأزمة الراهنة، عرج بريمير على أحداث 11 شتنبر، وذكر أن 92 في المائة من الأمريكيين دعموا آنذاك الرئيس بوش، وكثير من بلدان العالم فعلت الأمر نفسه، بمن فيها ألد أعدائه آنذاك، أي روسيا، حيث قدمت دعما لوجيستيكيا كبيرا للولايات المتحدة في أفغانستان؛ ما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلى تأسيس ج20 لرؤساء الدول الكبيرة في العالم. ولم تجد الصين آنذاك مفرا من دعم الاقتصاد الأمريكي حتى لا ينهار. إلا أن اليوم، وبالرغم من خطورة الأزمة الراهنة فالولايات المتحدة الأمريكية لا تدعم رئيسها الذي لا يحظى حتى بنصف الدعم الذي حاز عليه الرئيس بوش إبان أزمة 11 شتنبر، والاتحاد الأوربي أوقف كل تنسيق معها عقب إغلاق الولايات لحدودها معه، وتبادل الطرفان الاتهامات في الموضوع؛ أضف إلى ذلك أن بلدان ج7 وج20 لا تريد أن تعرف أي شيء عن الولايات المتحدة الأمريكية. في المقابل تحرك الصينيون سريعا، وأبقوا الأمريكيين في الخلف على المستوى الدولي، ما اعتبره مشكلا كبيرا بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية سياسيا واقتصاديا، ستؤدي ضريبته غاليا، وسيكلفها ذلك قيادتها للعالم. بل إن المحاور كان أكثر تشاؤما بالنسبة لبلاده واعتبر أنه لم يعد هناك وجود للولايات المتحدة الأمريكية على مستوى السياسة العالمية، وأن خطتها المتجلية في إغلاق الحدود وتبنيها شعار “أمريكا أولا” زادتها عزلة. وستكون لهذه السياسة عواقب خارجية خطيرة لأن باقي البلدان تحاول تدبير الأزمة لوحدها وتحاول الانتصار على الوباء وحيدة.

وعندما سألته الصحافية عما إذا كانت هناك مقارنة ممكنة مع أزمة 11 شتنبر، أجابها بريمير بأن الأزمة الراهنة أخطر بكثير لأن تداعياتها كبيرة، وخسائرها البشرية فظيعة، ونتائجها على المستوي العالمي كارثية، ثم أردف بأن العالم يعيش أزمة كبرى على مستوى تنسيق الرحلات الجوية، وكذلك على مستوى التنسيق الطبي بين أطباء العالم، ملاحظا أن الدول الغنية لها من الإمكانيات ما يجعلها تعتمد على نفسها عكس الدول الفقيرة التي سوف تكون في حاجة ماسة إلى المساعدات، ولن يكون هناك من سيساعدها، ولا من أين ستأتي بالتمويلات؛ فالصين والولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي تصرح بأنه لا أحد يجب أن يعتمد عليها لأنها بدورها في حاجة إلى المال. وإذا لم تجد البلدان الضعيفة من يمد لها يد المساعدة فالوضعية ستزداد كارثية.

وأضاف الخبير إلى كل هذا أن التدابير الصحية الموصي بها غير ممكنة في كثير من البلدان الفقيرة، وقدم مثالا على ذلك دولة الهند التي لا يمكن للهنود فيها القيام بتدابير التباعد الاجتماعي، ما قد يفني جزءا مهما منهم؛ ثم زاد إلى ذلك أن بقاء العالم مدة ستة أشهر بدون عمل يعني إصابة الاقتصاد بالركود، مع ما يستتبعه من أثر على اللوجستيك وعلى العولمة، خاصة عندما تصبح الأسفار تشكل خطورة على الناس..هذه هي المشاكل التي على العالم مواجهتها بسرعة وذكاء.

وعندما سألته الصحافية الذكية حول مغزى تأكيده على وجود دول فقيرة وصاعدة مقابل دول غنية، وهل سيؤدي ذلك إلى وضعية لا استقرار عالمي، أجابها بيرمر بأن دول العالم الغنية تساعد مواطنيها وتحاول إيجاد نوع من الاستقرار الاجتماعي، عكس ما يمكن أن يحدث في البلدان الفقيرة، حيث لن يجد الناس ما سيلبون به حاجيات عائلاتهم.. بالإضافة إلى كل هذا فإن العالم يعيش حربا بترولية، فالبترول نزل إلى ثمن عشرين دولارا للبرميل، مع كل الأثر الذي سيحدثه على الاقتصاديات التي تعتمد على بيع البترول، مثل فنزويلا التي يكلفها استخراج البترول أكثر من ثمن بيعه، وفي باقي المناطق، خاصة المناطق الإسلامية، حيث سيتحول الأمر إلى قلاقل سياسية واجتماعية، وقد يصل إلى انهيار نظم سياسية، ما سيدعم التطرف الديني؛ ذلك أن التطرف الديني منبعه عدم الاستقرار وغياب حكومة مستقرة في العراق وأفغانستان وسوريا. وكلما عجزت البلدان على الاهتمام بمواطنيها نما التطرف.

وعندما ذكرته الصحافية بقول سابق له مفاده أن العالم سيعيش أزمة غير مسبوقة سنة 2020، سألته إن كان على دول العالم – كل دولة لوحدها- مواجهة الأزمة وأثار الجائحة، رد عليها الخبير بأن الأمر أخطر من ذلك، مذكرا إياها بما سبق له قوله من أن العالم سيتوجه خلال العشر سنوات القادمة إلى ما أسماه G Zero World أي عالم بدون قيادة، ثم أضاف أنه “عندما كنا في بداية السنة نضع الاحتمالات تحدثنا عن أزمة ثنائية اقتصادية وجيوسياسية، وتغيير مسار العولمة نحو عالم مجزأ”، وزاد: “نحن الآن لم نعد في إطار الاندماج، بل على عكس ذلك”، وقدم أمثلة تؤكد كلامه، وخلص إلى أن العالم يذهب في اتجاه “على كل واحد أن يعتمد على نفسه”، وهذا سيضعف الإنسانية أمام أزماتها، خاصة ما يتعلق بالتعامل مع محيطنا الطبيعي، لذلك إذا أجلنا الحديث عن هذا إلى 2025 فلن تكون لدينا آنذاك الإرادة والقدرة على التغيير.. وأضاف أن أزمة المحيط الطبيعي ليست الوحيدة التي تحثنا على التسريع لرد التنسيق العالمي إلى سكته، بل هناك مشاكل كبيرة جدا تطالبنا بالتسريع، وخاصة ما يتعلق بالأمن العالمي، وعدة مواضيع أخرى ذكرها واحدة واحدة .

من هنا سألت الصحافية عن مستقبل العلاقة الصينية الأمريكية، وإمكانية اندلاع حرب بينهما، فأجابها بيرمر بأن الوقت مبكر للإجابة المباشرة عن السؤال، لكن المؤكد أن البلدين لن يتعاونا في المجال التكنولوجي، ما يوقعنا من الآن في حرب باردة؛ وازدياد هوة عدم التعاون يعني ألا توجد للبلدين مجالات التعاون المشترك التي تساهم في تجنب الصراعات والاختلافات، لذا فخطورة اندلاع حرب كلاسيكية ممكنة وتزداد، فالعالم كله تابع اتهامات الولايات المتحدة للصين في موضوع عدم الإخبار بخطورة “كوفيد 19″، والحقيقة أن الصين بدورها وجدت نفسها غارقة بعد أن لم تحسن تقدير خطورة الأمر.. لكن في النهاية القوتان معا لم تستطيعا تدبير الأمر جيدا، وهما المسؤولتان عن تمدد الأزمة اليوم.. أضف إلى كل هذا أن الولايات المتحدة الأمريكية تبحث عن حلول لأزمتها في سنة انتخابية بامتياز، ما سيدفع بالرئيس ترامب إلى البحث عن مشجب لتعليق كل أخطائه، والصين هو المشجب الوحيد، ما يؤكد أن العلاقة بين البلدين ستسير إلى مزيد من التدهور .

وعندما أبدت الصحافية ملاحظة مفادها أن الصين اليوم ليست هي صين السنوات العشر الماضية، وأن لها من الإمكانيات ما يمكن لها أن تبعث مساعدات طبية ودوائية لأكثر من بلد، ما سيرجع عليها بالنفع على مستوى العلاقات الدولية، رد عليها بيرمير بأن الصين لم تهدأ من ‘البروباغاندا’ لإبعاد تهمة إفشاء الفيروس عنها، وحاولت مساعدة حتى أكبر حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية الممثلين في بلدان الاتحاد الأوربي؛ في هذا الوقت فإن أمريكا كانت غائبة عن الساحة الدولية، والرئيس ترامب تخلى عن قيادة العالم، ولم يفكر ولو لحظة في الدعوة إلى انعقاد اجتماع دول ج20 .

وفي السؤال ما قبل الأخير سألته الصحافية عن ماذا يمكن أن ننتظر من عالم ما بعد “كوفيد 19″، فأجابها بريمير بأن عدم المساواة ستتعمق، خاصة في الدول الصاعدة – باستثناء الصين- والدول الضعيفة ستكون في حاجة إلى مساعدات ولا أحد سيمد لها يد العون.

على المستوى الداخلي ستتعمق عدم المساواة في الولايات المتحدة الأمريكية وفي أوروبا، وستتعمق التفاوتات الاجتماعية في كل العالم، كما ستنهار الشركات التقليدية، وفي المقابل ستنمو الشركات التكنولوجية. في النهاية يمكن للولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوربي التعافي من الأزمة عكس البلدان الفقيرة.

انتهى الحوار هنا، وهو ما سيسمح لنا بتقديم استنتاجات في أفق استثمارها، وهي:

العالم لن يعرف حربا كلاسيكية كالحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا حربا باردة كالحرب الشيوعية الرأسمالية، بل سيعرف حربا ستتسبب فيها بشكل مباشر الطرق التي ستخوضها الدول للدفاع عن مصالحها الخاصة.

إعادة النظر في المؤسسات الموروثة عن الحرب العالمية الثانية برمتها، وإنهاء دور الأمم المتحدة .

خطورة نمو تيارات شوفينية عنصرية تسيطر “ديمقراطيا” على الحكم في أكثر من بلد ديمقراطي، ما سيزيد من مشاكل البلدان الفقيرة، خاصة “المصدرة” منها للمهاجرين؛ ذلك أن هذه التيارات لن يكون في وسعها إشعال الحروب الكلاسيكية كما كان الوضع في الحرب العالمية الثانية.

في السنوات العشر المقبلة سنشهد تحالفات دولية على المصالح المشتركة الراهنة في وقت وجيز، دون البحث عن تحالفات إستراتيجية، وهي فرصة للتموقع لما بعد السنوات العشر المقبلة.

انهيار الشركات التقليدية المحلية لصالح الشركات التكنولوجية العالمية الكبرى ووجود ملايين البشر في وضيعة أخطر من وضعية العطالة (أي وضعية أشخاص لا يصلحون لأي شيء).

آن أن يطرح سؤال كبير بصيغة جديدة، هل الديمقراطية بمعناها التقليدي مازالت صالحة؟ وسترافقه بسرعة خطورة الإنهاء مع الفاعل السياسي في كثير من البلدان السائرة في طريق النمو والدمقرطة لصالح ليس التقنوقراط بالمفهوم التقليدي، بل لصالح نخب تتكون اليوم بسرعة هائلة على هامش الأزمة الراهنة (منقذون من الضلال غير دينيين).

ستكبر الدعوة إلى مراجعة كل الأدبيات الحقوقية ليس في اتجاه تكييفها وفق خصوصيات كل دولة، بل في اتجاه إعادة نظر كلية في مفهوم دولة الحق.

ستتم إعادة النظر في مفهوم الدولة، والتأكيد على أهمية الدولة الراعية للمصالح والأفراد، وستتغير التحالفات المبدئية لتقوم محلها تحالفات مؤسسة على المصالح في صورتها الفجة والمبالغة في النفعية.

*رئيس مركز الذاكرة المشتركة من أجل الديمقراطية والسلم

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.