رحَــل الـيوسـفـي تـاركـاً سـيـرةً عـطــرة عنوانها الكبـريـاء والوفــاء للـوطـن (بورتريه)

0 1٬835

من إنجــاز/ خديجــة الرحالـــي

رُزِئَ المغاربة قاطبة والمدافعين، بكل بقاع المعمور، على القضايا الإنسانية العادلة في وفاة المناضل والمجاهد عبد الرحمان اليوسفي الذي وافته المنية ليلة الخميس/الجمعة 29 ماي 2020، عن عمر يناهز 96 سنة. وإذا كان رحيل الفقيد قد خلف حزناً وأسى بليغين في صفوف أبناء جيله بمختلف مشاربهم الفكرية والحقوقية والسياسية لما خلفه من سيرة عطرة ومواقف نبيلة تشهد عليها مسيرته النضالية والحقوقية والسياسية، كما بين الأجيال التي تلتهم بتقدير واعتزاز كبيرين، فقد خلَّف الراحل وراءه إرثاً رمزياً غنياً تحمله الأجيال باعتزاز وفخر كبيرين.

كيف لا وهو المناضل الوطني الذي قضى سنوات زهرة شبابه في مواجهة نظام الحماية والدفاع عن مطلب الاستقلال وشرعية الحكم للملك الراحل محمد الخامس، والحقوقي الذي دافع طيلة حياته على العدالة الاجتماعية، وناصَر المستضعفين وحركات التحرر من براثن الاستعمار في كل بقاع العالم.

وهو، رحمة الله عليه، السياسي الذي بصم بكثير من الحكمة ورجاحة المواقف والصمت المعبر أيضا مساره السياسي سواء ككاتب أول لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أو كوزير أول في ما يعرف في التاريخ السياسي المغربي بحكومة التناوب، وأيضا المفكر الذي كان يتعفف عن كثرة الكلام إلا فيما يراه ضرورياً لرفع اللبس وتخليص ذمته من عبء حكم التاريخ.

النشأة والمسار،

رأى عبد الرحيم اليوسفي النـور في 08 مارس من سنة 1924 بحي “درداب” بمدينة طنجة القديمة التي كانت خاضعة لنظام حكم دولي، كما شهد أحداث حرب الريف التي قادها عبد الكريم الخطابي، حيث تلقى تعليمه الأولي إلى أن حاز على الشهادة الابتدائية سنة 1937، وهي نفس السنة التي فارق فيها اليوسفي والده.

وبالرغم من أن رغبة اليوسفي كانت في إتمام دراسته بثانوية مولاي يوسف بالرباط، إلا أنه رُفِض، بالرغم من نجاحه في مباراة المنحة الدراسية، بحجة أن والده كان من المُلاك، مما اضطره إلى الانتقال إلى مدينة مراكش، والعودة في وقت لاحق إلى مدينة الرباط حيث حصل على شهادة البكالوريا، حيث التقى بالمهدي بنبركة.

وإذا كان أول سفر لليوسفي إلى فرنسا سنة 1951 لم تتجاوز مدته سنة واحد، حيث عمدت السلطات الفرنسية الى إصدار قررا ترحيله بسبب انخراطه في عدد من المبادرات التي تهم التعريف بالقضية الوطنية، فإن قرار الاغتراب الاضطراري الذي اتخذه سنة 1967 امتد لـ15 سنة، أمضى جزءا منها في الدراسة والتحصيل، حيث راكم دبلوم عالي في العلوم السياسية وآخر من المعهد الدولي لحقوق الانسان.

من الجهاد ضد الاستعمار إلى قيادة التناوب بعد الاستقلال

مباشرة بعد التحاق عبد الرحمان اليوسفي في حزب الاستقلال سنة 1943، انخرط بقوة ودينامية في المظاهرات التي نظمت بعد شهر من تقديم وثيقة الاستقلال، اعتقلت على إثرها سلطات الاحتلال عدد من قيادات الحزب. وبسبب التضييق الممنهج على نشطاء الحركة الوطنية، اضطر اليوسفي الى الانتقال باستمرار بين مدن تافيلالت، وآسفي والدار البيضاء التي تكلف فيها بالإشراف على عدد من الخلايا الحزبية المكونة من عمال معمل “كوزيمار”.

وبعد مدة انتقل إلى مدينة طنجة التي أسس بها فرع لحزب الاستقلال الذي كان له الدور الكبير في تنظيم زيارة الملك محمد الخامس الشهيرة لمدينة طنجة سنة 1947. بعدها بثلاث سنوات، وبالضبط سنة 1951، سافر الفقيد إلى فرنسا حيث التقى بعبد الرحيم بوعبيد، فانخرط في دينامية التعريف بالقضية الوطنية ما دفع بالسلطات الفرنسية إلى ترحيله سنة 1952.

بعد عودته إلى أرض الوطن، لم يجد اليوسفي حزب الاستقلال الذي تركه، مما دفعه الى اتخاذ قرار الابتعاد عن الحزب وأخذ مسافة منه. سنوات بعد ذلك، وفي إطار إنضاج الشروط الذاتية والموضوعية لمبادرة “اللجنة السياسية”. وبعد جدل تنظيمي وقضائي بين أصحاب المبادرة وقيادة حزب الاستقلال، تبين لرفاق اليوسفي أنه لا مناص من تأسيس حزب سياسي جديد، وهو ما تم في الـ6 من شتنبر من سنة 1959 حيث تم تأسيس، بمدينة الدار البيضاء، حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

مبادرة “اللجنة السياسية” من داخل حزب الاستقلال، ورفض قيادة الحزب للمنحى الذي اتخذته، دفعت بأصحاب المبادرة الى عقد اجتماع بمدينة طنجة وتأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، الذي عقد مؤتمر تأسيسه لاحقا بالدار البيضاء، في الـ6 من شتنبر 1959. وكان اليوسفي أحد مؤسسيه، كما ترأس تحرير جريدة “التحرير”، التي حجزت ومنعت من التوزيع في الـ ـ14 من دجنبر 1959، كما تم اعتقال رئيس التحرير والمدير العام للجريدة الفقيه محمد البصري، حيث تمت إيداعهما بسجن لعلو بالرباط.

الالتزام السياسي في مسار عبد الرحمان اليوسفي غلب فيه مصلحة الوطن ولو أن الثمن كان على حساب حريته وسنوات عمره، ولعل أبرز مؤشر على ذلك ما حدث سنة 1962، ذلك أنه وبالرغم من اتخاذ حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية” قرار معارضة دستور 1962، إلا أنه قرر المشاركة في تشريعيات نفس العام. ليتجدد اعتقاله خلال عملية التحضير للانتخابات البلدية وذلك بحجة التآمر على أمن الدولة الداخلي والخارجي، وحكم عليه بسنتين سجنا مع وقف التنفيذ. كما حرص اليوسفي على دوام التنسيق مع الفريق النيابي لحزبه في البرلمان، ما أسفر عن تقديم ملتمس رقابة ضد الحكومة آنذاك، لينتهي الأمر بتعديل حكومي في غشت من سنة 1964.

انتصار اليوسفي للقضايا التي آمن بها وإخلاصه في الدفاع عنها، حيث كان العضو البارز في التنسيق بين أطراف الدفاع المدني، والتنسيق مع وسائل الإعلام الدولية، التي غطت محاكمة قضية اختطاف المهدي بنبركة التي جرت أطوارها في باريس شهر يونيو من عـام 1967، وهي المواقف التي أججت عليه غضب السلطات الرسمية في الداخل كما في الخارج، مما اضطره إلى اختيار الاغتراب الاضطراري بفرنسا، الذي دام لـ15 سنة، حيث عاد إلى متابعة دراسته، وأولى اهتماما خاصا بحقوق الإنسان، كما تولى الدفاع عن المناضلين الفلسطينيين أمام المحاكم الأوروبية، وكان أيضا عضوا في المحكمة الدولية ضد الجرائم التي ترتكب في الفيتنام آنذاك.

وبعد تلقيه لعدد من الإشارات، قرر اليوسفي العودة إلى المغرب عـام 1980، لتكون الكلمة التأبينية التي ألقاها على قبر الراحل عبد الرحيم بوعبيد الآلية التي عبدت له الطريق لقيادة حزب “الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية”. وعلى امتداد 15 سنة من النضال والمواقف السياسية التي شكلت أساس عملية الشـد والجذب بين الحزب والسلطة. ليقرر بعدها المشاركة في العملية الانتخابية لسنة 1993، إلا أن عدم رضى اليوسفي على طريقة تدبير السلطة لتلك الاستحقاقات والنتائج المترتبة عنها دفعته إلى اتخاذ قرار الاستقالة من الحياة السياسية.

في سنة 1996 التي شهدت تنظيم استفتاء دستوري، زكاه رفاق اليوسفي بـ”نـعـم” التي اعتبرت آنذاك إشارة عملية على انقضاء مرحلة التشنج بين الدولة والحزب وبداية مرحلة جديدة، أساسها العمل الجماعي وفق مقاربة تشاركية تحفظ لكل طرف جزءا من خصوصيته ومميزات وجوده. فتم التوافق على عبد الرحمان اليوسفي وزيرا أولا للحكومة المشكلة عـام 1998.

ومنذ ذلك الحين، عكف الوزير الأول عبد الرحمان اليوسفي على تنزيل مجموع القيم والمواقف التي ناضل سنين عدة من أجل تطبيقها على أرض الواقع، سواء تلك المتعلقة بفصل السلط وضمان استدامة التوازن فيما بينها، والفصل بين مهام واختصاصات القطاعات الحكومية التي كانت آنذاك ممركزة في يد وزير الداخلية.

لتُشكِّلَ استحقاقات 2002 منعطفا كبيراً في مسار الحزب عموما والحياة السياسية لعبد الرحمان اليوسفي على وجه التحديد، حيث قرر بناء على نتائجها التي رأى فيها اليوسفي أنها غير منصفة بالمرة، الاستقالة واعتزال الحياة السياسية والتواري عن الأنظار.

شهادات حية في حق فقيد الوطن،

د. عبد اللطيف وهبي، الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة،

اليوم رحل عنا رجل من طينة خاصة، قائد اختار أن يوقع بطريقة خاصة خاتمة حياة صراع طويلة ومريرة، من النضال الوطني إلى معركة البناء الديمقراطي، من ممارسة الحكم إلى التقاعد والصمت، صمت الشجعان أم صمت الخيبة من الأصدقاء قبل الأعداء؟

وكيفما كان الحال فالرجل عاش كبيرا ومات كبيرا، واجه ظلم المحاكمات، وتألم للمآمرات، تحدى المنفى وغامر بالسلطة، لكنه ظل هو هو، عاش على طبعه وسجيته، عاشقا لطنجة ومحبا للوطن، فهل يمكن للقلم حتى ولو كان خاضعا لسلطة اللغة أن يسطر كلمات لعله يختزل منها تاريخ هذا الرجل؟

عاش اليوسفي وحيدا في السجون، ووحيدا في المنفى، ووحيدا في السلطة، تم وحيدا في التقاعد، كأن الوحدة جزء من كيانه، أو هي طريقة حضوره، غريب أمر هذا الرجل، بقدر ما هو وحيد يجتمع حوله الناس، وبقدر ما حاولوا اغتياله كان يولد ألف مرة في لحظة الاغتيال.
سيظل سي عبد الرحمن شاهدا على الكثير من الأحداث التي حملها تاريخ هذا الوطن، إذا لم نقل فاعلا فيها بصمت، سواء حين كان محاميا في اتحاد المحامين العرب، أو سياسيا في حزبه، أو وزيرا أولا في منصبه، ثم شاهدا على العصر في تقاعده.

د. محمد نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية،

حزن كبير اعتمرني، ولا يزال، منذ لحظة اضطلاعي على خبر وفاة الفقيد عبد الرحمان اليوسفي الذي كان رجلاً طيبا، متواضعا، صادقا، مستقيما ونزيها.

عندما تعرفت على الفقيد، بعد عودته إلى المغرب وتحمله مسؤولية الكتابة الأولى لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، وجدت فيه رجلا بعمق نضالي وسياسي وفكري كبير، يتميز بتواضع المناضلين، وبعمق التحليل والرؤى الثاقبة، بعد ما راكمه من مسار حافل بالنضال وبالتضحية. رجل يجسد الزمن الذي عاش فيه، حيث ناضل إلى جانب العظماء، من أجل استقلال الوطن سياسيا وإعلاميا، في إطار حركة المقاومة الوطنية.

كيف لا، وهو الرجل الذي ربط النضال من أجل الاستقلال بالنضال من أجل الديمقراطية والعدالة الاجتماعية لفائدة المحرومين. لقد عانى، رحمة الله عليه الكثير، وقدم تضحيات جسام، وخبر المنفى الذي كبر فيه كثيراً، وظل محترما وفيا لثوابت بلاده من موقع المعارضة، ليلتحق بوطنه بعدما اكتسب مكانة دولية وعربية ووطنية مرموقة، وساهم إلى جانب قادة الكتلة الوطنية، في إطار التكامل مع رغبة الملك الراحل الحسن الثاني، في وضع اللبنات الأولى لما سمي بالتحول الديمقراطي، فكان آخر وزير أول لحقبة الحسن الثاني، وأول وزير أول في عهد الملك محمد السادس.

الفقيد خرج من التجربة كما دخل إليها، خرج شامخا، كبيرا، عزيزا، يحظى بتقدير واحترام كبيرين، من قبل الشعب المغربي بكل أطيافه، وظل كذلك إلى آخر لحظات حياته.

يغادرنا اليوم وقد ظل وفيا للمبادئ والقيم التي كرس لها كل حياته..

وداعــــــاً السي عبد الرحمـــــــن اليوسفــــــي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.