صراع الهويات والهوة الاجتماعية: المغرب والعالم في مفترق طرق بين الأصالة والتحديث

0 234

يشهد المغرب، كجزء لا يتجزأ من العالم، تحولات عميقة ومتسارعة تضع الهوية والنسيج الاجتماعي في قلب عاصفة التغيير. لم يعد الأمر مجرد تعديل طفيف في أنماط العيش، بل انعطافات اجتماعية حادة تشق هوة متزايدة بين الماضي المُمَجَّد وما يحمله المستقبل المجهول. يتعلق الأمر اليوم بإعادة تعريف الذات الوطنية في خضم أمواج العولمة والتحديات الداخلية المتمثلة في التفاوت الاجتماعي والتنموي.

لطالما تميزت الهوية المغربية بثرائها وتعدد روافدها، من الأمازيغية والعربية الإسلامية إلى الأندلسية والمتوسطية والأفريقية. هذا التنوع، الذي نص عليه الدستور، يمثل قوة تاريخية، لكنه يتحول في السياق الحالي إلى حقل لـالتجاذبات والإشكاليات. ففي الوقت الذي يسعى فيه المغرب إلى التحديث ومواكبة متطلبات العصر، تبرز تحديات ضخمة نابعة من تيار العولمة الثقافية. هذه العولمة، التي غالباً ما تأخذ صبغة هَيمنة غربية (خاصة الأمريكية)، تعمل على نشر أنماط استهلاكية وفكرية وسلوكية موحّدة عبر وسائل الإعلام والتواصل الحديثة. يرى البعض في هذا انفتاحاً ضرورياً يُثري الثقافة ويعزز التسامح، بينما يراه آخرون خطراً وجودياً يُهدد الخصوصية الثقافية والوطنية، ويسعى إلى “تآكل الهوية” من خلال ترسيخ أنماط بعيدة عن الجذور المحلية.

يعيش المجتمع المغربي حالة من “الانفصام الثقافي” بين فريق يشدد على الحفاظ على التقاليد العريقة والجذور الأصيلة (الإسلام واللغة العربية والأمازيغية)، وفريق آخر يدعو إلى التحديث الجذري والتكيّف مع متطلبات الحداثة. أزمة الهوية هنا ليست في تعدد المكونات بحد ذاتها، بل في كيفية دمجها وتشكيل هوية مركبة قادرة على بناء مستقبل منفتح ووفي لجذوره في آن واحد. إن التحدي يكمن في إيجاد تقاطع بنّاء بين التراث والحداثة، بعيداً عن الصراع أو القطيعة.

إن التحولات الاجتماعية في المغرب اليوم لا تنفصل عن التجاذبات الهوياتية. فـالحَراك الاجتماعي والاحتجاج المتزايد يمثل مؤشراً قوياً على تغيّر علاقة المواطن بالسلطة وعلى ارتفاع الوعي بالحقوق والقلق الترابي المتعلق بالعدالة التنموية. لقد شهدت البنية الاجتماعية المغربية تحولاً من تنظيمات مجتمعية تقليدية كـالقبيلة إلى نموذج الدولة الحديثة بمؤسساتها، كما عرفت الأسرة المغربية، كمؤسسة اجتماعية محورية، تغييرات واسعة بفعل التحضر والنمو الاقتصادي، ما خلق ديناميات جديدة في الأدوار والعلاقات الاجتماعية. وعلى الرغم من التقدم الذي أحرزه المغرب في مجالات التنمية الاقتصادية والبنية التحتية، لا تزال الهوة الاجتماعية بين مختلف فئات المجتمع وبين المركز (المدن الكبرى) والمحيط (المناطق الهامشية) تمثل تحدياً صارخاً. وتزداد هذه الهوة تعميقاً نتيجة لـسياسات اقتصادية يراها البعض نتاجاً لمتطلبات النظام المعولم، كـالخوصصة وتخفيض الإنفاق الاجتماعي في مجالات حيوية مثل الصحة والتعليم. هذا التفاوت يُغذي الإحساس بالإقصاء ويزيد من حدة التوترات الاجتماعية وثقافة الاحتجاج، مما يعيق الإجماع الوطني حول رؤية التنمية الشاملة. إن المخرج من هذا المفترق يتطلب تبني مقاربة شاملة؛ أولاً: استثمار التعددية الهوياتية والتعامل معها كـرافعة للتنمية وأساس للتلاحم المجتمعي، بدلاً من جعلها مادة للصراع. ثانياً: حماية الثقافة في وجه العولمة عن طريق تحويلها إلى صناعة وقوة ناعمة، مع الحرص على تثمين التراث والانفتاح بشروط على الثقافات العالمية دون ذوبان. ثالثاً وأهمها: جسر الهوة الاجتماعية من خلال تحقيق عدالة اجتماعية وتنمية مجالية شاملة تقلص الفجوات بين الفئات والمناطق، وتُمكن جميع المواطنين من العيش بكرامة والمساهمة الفعالة في بناء الوطن. إن مستقبل المغرب يرتكز على مدى قدرته على بناء هوية وطنية جامعة ومنفتحة، مع الالتزام الراسخ بتحقيق التنمية العادلة التي تُمكن جميع المواطنين

بقلم هشام الدفلي
…يتبع

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.