كلمة الأمين العام السيد حكيم بن شماش في الجلسة الافتتاحية للمجلس الوطني (الدورة 24)

0 1٬000

ألقى الأمين العام لحزب الأصالة والمعاصرة السيد حكيم بن شماش، صباح اليوم الأحد 05 ماي الجاري، خلال انعقاد أشغال الدورة الرابعة والعشرون للمجلس الوطني للحزب، المنعقدة بقصر المؤتمرات سلا (الولجة)، (ألقى) كلمة هذا نصها الكامل:

العزيزات والأعزاء أعضاء المجلس الوطني،

أتوجه إليكن وإليكم بمناسبة انعقاد مجلسنا الوطني في ظروف خاصة كما تعلمون.

في هذه المناسبة الهامة لن أترك للغة الخشب أن تبطل أفكارنا وطموحاتنا وإرادتنا. ولذلك سوف أتحدث إليكم بلغة الصراحة والوضوح، اللغة التي قد تؤلمنا لكنها بالتأكيد سوف تساهم في مداواة ومعالجة حالتنا.

بدون لف أو دوران أقربأننا نعيش أزمة بمعنى من المعاني.ولكنني أقرفي الوقت نفسه بأننا قادرون على تجاوزها بالوعي والإرادة والالتحام والمسؤولية.

إحدى أكثر مظاهر الأزمة بروزا هي المسألة التنظيمية.

لقد استطعنا أن نحصل على أزيد من مليون صوت خلال آخر انتخابات تشريعية وحصلنا خلالها على الرتبة الثانية بين الأحزاب المشاركة في هذا الاقتراع. لكن يجدر بنا أن نتساءل ما هي القيمة السياسية الحقيقية لهذه النتيجة وكم من المواطنين كسبنا وعيهم بالمشروع المجتمعي الذي ندافع عنه ونسعى إلى تحقيقه؟ وكم من الأطر الشابة استطعنا تأطيرها بمرجعيتنا الفكرية وتسليحها بالوعي السياسي اللازم؟ وكم من منظمة أو حركة موازية أسسنا في المدن الكبيرة والصغيرة والقرى؟ وهل بدأنا توفير الجيل الجديد من المناضلين والقادة؟ نعم أقول القادة لأن الحزب الذي لا يضمن تكوين القادة الجدد لا يستطيع التطور والانتشار، فبالأحرى أن يكسب المواقع المؤسساتية والجماهيرية من أجل التقدم في حمل مشروعه المجتمعي والدفاع عنه وترسيخه في جميع مستويات الوجود الاجتماعي.

لقد اعتقدنا بأن نجاح مشروعنا يتوقف على عدد ناخبينا ومنتخبينا أساسا، مطمئنين إلى أن مجرد صعود مؤشراتنا الرقمية كاف لضمان استمرار المشروع. ونسينا او تناسينا أن أهم ما في الجسد ليس هو الهيكل بل الروح الكامنة فيه، هو الطاقة التي هي أوكسجين النضال اليومي المثابر بين الناس في فضاءات العمل وكل فضاءات التواجد الاجتماعي.

هذه أسئلة أغلبها تعرفون جوابها. ولست هنا في معرض تبرير ما هو قائم بل إنني أقر بينكم بالمسؤولية الجماعية المشتركة في هذا التقصير المقلق الذي هو في الواقع يتجاوز التقصير إلى ما هو أخطر وهو اعتماد ضمني أو معلن للاختيار “الانتخابوي” الذي لا يقيم وزنا للتنظيم إلا انطلاقا من علاقته بالانتخابات والفوز السريع فيها وما يتلوها من مسؤوليات في الهيئات المنتخبة، سرعان ما تتحلل في صيرورات التدبير اليومي فتصبح ظواهر غريبة لا يجمعها بالحزب شيء ذو بال … حتى أصبح الحزب يشتغل للانتخابات محولا إياها الى هدف بحد ذاته عوض أن يكون الحزب ممسكا بدفة الأمور، في تحليله السياسي وفي تقديمه للأجوبة البرنامجية على أسئلة وانتظارات المواطنين وفي رسمه للأولويات وفي تحديد تحالفاته وفي تدبير سياسته التواصلية وفي تأطير قطاعاته…


لقد كرسنا بهذه الممارسات تقاليد قديمة كثيرا ما انتقدناها في فترة التأسيس ولم نفلح في إفراز أخرى بديلة كتلك التي حلمنا بها وأطلقنا عليها عبارة “ممارسة السياسة بشكل جديد”…

إخواني أخواتي:

تعلمون أن فعل السياسة باعتبارها عملا جماعيا مثابرا من أجل ضمان غلبة مشروع مجتمعي، فعلٌ تؤطره سياقات داخلية بالطبع، لكن كذلك سياقات جهوية ودولية لا بد من أخذها بعين الاعتبار. فهل قمنا داخلنا بتقييم هذه التطورات ونتائجها؟ هل قمنا بما يكفي من الأبحاث والدراسات والمناقشات من أجل سبر أغوار التطورات المتلاحقة حولنا؟ هل قمنا بتقييم ظاهرة ما أطلق عليه “الربيع العربي” من أجل الوقوف على دوافعه وآفاقه وعناصره المحركة؟ هل استطعنا كحزب مستقل بلورة مقاربة خاصة بنا تدمج الإشارات الإيجابية النابعة من عمق التوق المشروع للشعوب المنتفضة ونفصله عن المناورات المحتملة للقوى الخارجية التي حاولت وتحاول تحريفه عن سكته والزج بشعوبه في معمان الحروب الأهلية المدمرة كما حدث في العديد من البلدان في منطقتنا الجيوستراتيجية؟ وهل استطعنا أن نسبر غوره داخل مجتمعنا وأن نؤسس نظريتنا في ذلك من أجل استدماجها في مقارباتنا وسياساتنا وأساليب عملنا وقاموسنا السياسي ومرجعيتنا الفكرية؟

وحتى قبل أن ننتبه إلى مرور الموجة الأولى من هذا “الربيع” وما خلفته من حروب أهلية ودمار وتهجير وضحايا وتصفيات… حتى انطلقت موجة أخرى أخذت تمس دول الجوار ضمنها دول في الجوار المباشر في سيناريو جديد-قديم قوامه اتساع الاحتجاج وجذريته ورفض الحلول الوسطى والأمر المقلق في هذا: غياب البديل السياسي المكتمل أو ضعفه في هذه البلدان، البديل القادر على تأطير الرفض الشعبي المشروع وتوجيه طاقته نحو المخارج المنتجة وتنأى به عن المخارج المضطربة القادرة على الانفلات نحو الحالات التي يفضلها أقوياء العالم اليوم حتى يكون لتدخلهم “معنى” بل “ضرورة” تخفي المطامع التوسعية البديهية لكل قوة تحاول الحفاظ على موقعها في عالم اليوم المضطرب.

لقد تغير العالم من حولنا وتعددت بؤر التوتر فيه واستبدِلت اللغة الدبلوماسية بلغة التهديد والوعيد بل والتحدي والاحتقار، وعادت لغة الاستعلاء العرقي إلى القاموس السياسي بين الدول بل هناك من الزعماء من لم يعد يتورع عن تخطي كل الخطوط الحمراء في السياسة الدولية. كما أن أشكال ومظاهر العمل الإرهابي قد تنوعت وتعددت وتجاوزت حدود الدول والقارات وأصبحت تعولم العالم على طريقتها عنفا وبشاعة وإدامة للاّاستقرار المزمن كمعطى دائم بين الدول.

إن هذه الوضعية يجب أن تدفع حزبنا إلى استحضار هذه السياقات الجديدة في كل مناحي عملنا السياسي. لقد استطاعت بلادنا أن تؤمِّنَ شروط الاستقرار بما يضمن الحد الضروري اللازم، وذلك يعكس الرؤية المتبصرة لجلالة الملك وسيره على نهج الإصلاحات الضرورية للبلاد. غير أن الظرف التاريخي أخذ يتطلب منا سرعة أكبر في إنجاز الإصلاحات على جميع المستويات وفي مقدمتها ملف التعليم الأزلي. إن بلادنا لن تعرف انطلاقتها النهائية ما لم يتم معالجة هذا الملف بالمسؤولية والحرص الذي يستحقه إلى جانب ملف التشغيل.

إن ما يقلق أمام كل هذه التحولات هو البطء والتردد والتلكؤ وغياب الاهتمام اللازم بقضايا الشأن العام المصيرية الذي يطبع تصرف طبقتنا السياسية، فهي لا يهمها إلا الاستمرار في مواقعها لا التأثير المطلوب منها في مجريات الأمور.

غير أن ما يزيد الطين بلة هو استمرار الإسلام السياسي بجميع تلاوينه وتمظهراته في التشويش على التطور الطبيعي لبلدنا نحو الفصل بين أمور التدين وأمور الفعل السياسي ويعطل بذلك صيرورة انبثاق الوعي الديمقراطي الحداثي المشبع بالأصالة المغربية والذي هو شرط إنجاح الانتقال الديمقراطي بشكل حاسم.

لقد تكلفت الحياة نفسها بوضع هؤلاء على محكها وتبدّى للجميع أن ادعاءات الطهرانية الأخلاقية لا يمكن أن ترقى إلى تصور يجسد مشروعا مجتمعيا ينهض الهمم ويشحذ العزائم ويتجاوز شعور التردد العام وفقدان الثقة في العمل السياسي كأداة للتغيير المجتمعي. فقصارى ما يمكن أن يضمنه ادعاء “الطهرانية” هو بناء علاقات ذات طبيعة ديماغوجية مع البسطاء من المغاربة تبتزهم روحيا وانتخابيا مقابل الرشوة العينية التي تُعطى للفقراء منهم تحت مسمى المساعدات الغذائية التي يتأتى تمويلها من شبكة الإسلام السياسي المنتشرة في العالم تحت مسميات متعددة.

الأخوات والإخوة

إن الصراحة تقتضي في هذا السياق ألا نكتفي بأن نلقي باللائمة على الأخرين، بل يجب أن نقر بالمسؤولية التي نتحملها نحن كذلك في تنفير المواطنين بوعي أو بدون وعي من الثقة في العمل السياسي.

لقد فتحنا أبوابنا على مصاريعها لكل من هب ودب في عالم كسب الأصوات الانتخابية مهما كان الثمن وتقاعسنا عن البحث النظري واحتقرناه وأحجمنا عن التكوين والتـأطير للأجيال الجديدة من الملتحقين بصفوفنا وابتعدنا عن مبادئ الحكامة الجيدة في تدبير أمورنا الداخلية. كما أننا تركنا منتخبينا بلا بوصلة ملائمة في مجال تدبير تحالفاتهم بل وأساسا في مجال تدبير وحل مشاكل المواطنين وتخلينا عن وعودنا فيما يتعلق بسياسة القرب. كل ذلك أدى بالمواطنين إلى تشكيل نظرة عن حزبنا لا تشبه في شيء ما وعدناهم به بل هي نظرة تصنفنا اليوم ضمن نفس النسق الحزبي المُرَاد تأهيله كي يتماشى مع المرحلة التاريخية اليوم في بلادنا وفي بلاد الجوار.

فإذا أضفنا إلى كل ذلك تصرف عدد من الفاعلين الحزبيين الذين تنقصهم الحجة والحضور والامتداد التاريخي فيتخصصون في انتظار الإشارات وفي ادعاء “القرب” وفي ضرب مبدأ تحمل الفاعل الحزبي والمؤسساتي للمسؤولية في الصميم عن طريق ادعاء أن كل ما يتم إنجازه في المغرب يعود حصرا إلى المؤسسة الملكية، فإننا نقف على حقيقة مفادها أن هؤلاء لا يعنيهم تقدم نظامنا السياسي في توسيع مسؤولية القرار والتدبير السياسيَيْن ومن ثمة إعطاء معنى للمحاسبة، بقدر ما تعنيهم استراتيجية القرب المريح الذي يهم مصالحهم الضيقة قبل مصالح المواطنين، لا يهمهم في ذلك إذكاء الجدالات المستحكمة العقيمة وسط الأغلبية الحكومية الحالية مع ما يحدثه ذلك من ضبابية لدى المواطن تزيد من عزوفه عن العمل السياسي، بل وكرهه للسياسة والسياسيين.

الأخوات والإخوة،

إن الدينامية المجتمعية دينامية غير قابلة للضبط المطلق وللاستشراف المستقبلي الدقيق. إن بإمكانها أن تفاجئ أكثر المتنبئين دراية وتجربة. ولنا في التجارب القريبة والبعيدة الدروس تلو الدروس. لذلك فإن الحس السياسي البسيط يستطيع أن يقدر مدى حساسية الموضوع لو استمر الأمر على ما هو عليه من فقدان الثقة في العمل السياسي ومن احتقانات اجتماعية ومن انفلاتات فردية ضمن سياق لا تغيب عنه المخططات الخارجية المختلفة التي تستهدف بلادنا أكانت هذه التهديدات إرهابية أو هيمنية عالمية أو جهوية. فإذا كنا في الحزب نعتبر هذه الدينامية المجتمعية عنصرا جوهريا في الدفع بالطموحات المشروعة للشعب وإبرازها للعلن أمام أنظار المسئولين وأصحاب القرار فإننا نعتبر بالمقابل أن هذا الأمر حين يطفو على سطح الأحداث، لا يزيد الفاعل الحزبي – ومن ضمنه حزبنا – إلا ثقلا في المسؤولية ودقة في القرار ورهبة عند التنفيذ.

وإذا كان الواقع الاجتماعي المتردي لعدد كبير من مواطني بلدنا في جميع القطاعات والناتج عن السياسات المتبعة ببلادنا اليوم قد جعلهم لقمة سائغة سواء أمام ممتهني اللعب على الوتر الديني أو أمام محترفي إشاعة العدمية والشعبوية أو في مواجهة فقدان الأمل في إيجاد حل لمشاكلهم الاجتماعية ضمن النظام الاجتماعي القائم… فإن الاستكانة إلى الاستقرار وترديد خطاب ” الاستثناء” هو حجة لا تكفي بتاتا إزاء وضع كهذا، بل هي حمالة مخاطر يجب استحضارها في كل وقت وحين…

فقد شكلت الاحتقانات الاجتماعية المتتالية خلال السنوات القليلة الماضية ناقوس خطر جدي: فمن أحداث سيدي أيفني إلى أحداث صفرو إلى أحداث زاكورة ثم أحداث الحسيمة والنواحي ثم أحداث جرادة…الخ كلها محطات تؤشر على تحولات عميقة في بنيتنا الديمغرافية وفي نسيجنا الاجتماعي والثقافي وحتى القيمي ،مثلما تؤشر بشكل تصاعدي إلى ميلاد صيرورة اجتماعية جديدة قوامها اتساع الطلب الاجتماعي وتقلص الصبر لدى فئات عديدة من المجتمع واتساع إمكانيات التواصل والتفاعل والنمذجة…ومن نافلة القول أن الحزب السياسي الذي سوف يعجز عن التفاعل مع هذه الظواهر المجتمعية الجديدة سيكون محكوما بالهامشية وتقلص قوة التأثير في مجريات الأمور في البلد.

أخواتي إخواني

إن ما يقلقني ويجب أن يقلقنا حقا خلال هذه السبع سنوات ونصف العجاف من تدبير الحزب الأغلبي للشأن الحكومي وللشأن العام ليس فقط هزالة وضحالة الحصيلة اجتماعيا واقتصاديا،ما يجب أن يقلقنا ليس فقط إغراق الحكومة للبلد في المديونية المفرطة التي انتقلت – حسب الأرقام الواردة في تقارير المجلس اّلأعلى للحسابات التي قدمت أمام البرلمان من 331.3 مليار درهم سنة 2011 الى 1046 مليار درهم مع متم سنة 2019، ،ما يجب أن يقلقنا ليس فقط أن السنوات الثلاث القادمة ستكون صعبة وربما عصيبة اذا صدقت توقعات البنك الدولي الذي أشار في دراسة استشرافية صدرت له حديثا إلى أن معدل النمو – في أفق سنة 2021 – لن يتجاوز نسبة 2 % وفي أفضل الحالات 3 %، ،ما يجب أن يقلقنا ليس فقط هذا الهدر غير المبرر لفرص وإمكانات تقدم البلد، ولكن ما يدعو للقلق حقا، فوق هذا وذاك، هذه الحالة من الانتظارية المخيفة المهيمنة على الطبقة السياسية وعلى المشهد العام برمته.

والأخطر من ذلك، وأتمنى أن أكون مخطئا على هذا المستوى ، هو غياب ” الفكرة القائدة” ، أعني بذلك غياب المبادرة أو الدينامية القادرة على تعبئة مكونات الأمة واستنهاض امكاناتها وقدراتها الكامنة للتقدم الى الأمام بالنفس الوحدوي الوطني الجامع وبالوتيرة التي يفرضها العصر وتتطلبها التحديات الجمة المتفاقمة من حولنا، سواء تلك المرتبطة بالتحولات العميقة التي حدثت وتحدث على مستوى البنية الديمغرافية للمجتمع المغربي أو تلك التي تأتينا من البيئة الجهوية المضطربة ومن المحيط الدولي البالغ التعقيد.

لقد عاش المغرب وتعبأ المغاربة في ظل العهد الجديد خلف أفكارقائدة ملهمة، وانخرطت أغلبية مكوناتهم وتعبيراتهم في مبادرات وديناميات معبئة وجامعة ودافعة نحو الامام على درب الدمقرطة والتحديث، من ذلك على سبيل المثال لا الحصر دينامية الانصاف والمصالحة التي فتحت آفاقا واعدة ورحبة ولم يستكمل تنزيل روحها على الأرض خاصة في أبعادها الثقافية والمجالية والقيمية ، من ذلك مثلا تقرير الخمسينية الذي رسم ملامح المغرب الممكن المتطلع الى المستقبل، من ذلك مثلا فكرة الدستور الجديد الحامل والحابل بفرص كبيرة جرى هدرها او عدم استثمارها بسبب مهاترات الفاعل السياسي والحزبي ، من ذلك مثلا مشروع الجهوية المتقدمة كمشروع إصلاحي ثوري يروم إعادة صياغة بنية ونسق الدول برمتها…..

يخيل الي أن مثل هذه الأفكار والمبادراتوالديناميات العملاقة والملهمة قد انطفأ وهجها أو يكاد او على الأقل – مرة أخرى بسبب مهاترات وكسل الفاعل السياسي والحزبي ونحن منهم- لم تعد تؤدي وظيفة التعبئة الجماعية ولم تعد تغذي مكونات الأمة وقواها الحية بالطاقة وقوة الدفع المطلوبة لكي ترتقي الى الأعلى وتتقدم الى الأمام.

نحن – أعني البلد- والحالة هذه ، بحاجة إلى فكرة قائدة، إلى مبادرة قادرة على إحياء وتعزيز الثقة في المؤسسات ، قادرة على احتواء حالة الإحباط والتشاؤم المستشرية ، قادرة على استثمار الإمكانات المهدورة وعلى استجماع وتعبئة المغاربة من جديد خلف ملكهم المصلح والمجدد والمتطلع إلى ارتياد البلد للآفاق الرحبة للتقدم والتنمية والحداثة.

إنني أدعو مثقفي ومفكري ومؤسسات الحزب الى الانتباه لجسامة هذه التحديات ولخطورة ودقة ما تطرحه علينا من أسئلة ومهام، أدعوهم ، بموازاة الاشتغال على تجديد وتطوير العرض البرنامجي لحزبنا، إلى الاشتغال على صياغة وبلورة مبادرة لعلها تخرجنا من هذا البؤس المروع الذي نحن فيه. وههنا أدفع بفرضية الحاجة إلى الاشتغال على بلورة ما سميته في مناسبة سابقة بالحاجة الى فكرة ” الوطنية الثانية”.

فكرة الوطنية الثانية ليست شيئا آخر غير ما سميناه في الوثائق التأسيسية لحركة كل الديمقراطيين ب”تامغربيت”، تلك الحركة التي تعتبر واحدة من أنبل الظواهر السياسية في تاريخنا المعاصر والتي، للأسف الشديد، جرى إجهاض حتى مبادرة الاحتفاء بذكراها الحادية عشرة

فكرة “الوطنية الثانية” :قائمة على المواطنة الدستورية، ذات البعد الدامج، الدمج بكل أبعاده السياسية والثقافية والاجتماعية والمجالية وبمعناه القائم على التضامن بين الأجيال،

فكرة الوطنية الثانية تحمل ضمنيا تجاوزا (ليس بمعنى القطيعة وإنما بالمعنى الجدلي لهيغل): أي الانتقال إلى وضع أكثر تطورا لإرث “الوطنية الأولى” ، ارث الحركة الوطنية الذي لم يكن حاملا (أو لم يكن حاملا بشكل كاف) لفكرة التنوع الثقافي واللغوي والمجالي للمغاربة.

فكرة الوطنية الثانية هي فكرة قائمة على الاعتراف reconnaissance بالمغاربة كمواطنات ومواطنين متساوين دون تمييز فيما ينهم، و بالاعتراف بهم في تنوعهم و تعددهم.

فكرة الوطنية الثانية مرتبطة بسردية تأسيس الحركة لكل الديمقراطييين ولاحقا تأسيس حزب الأصالة و المعاصرة، وهي وليدة السياقات الواعدة لتجربة العدالة الانتقالية ولتجربة التفكير الجماعي في مسار التنمية المتخذ منذ الاستقلال ، وهي تفاعل واع وإرادي مع آمال المصالحات الثقافية و المجالية ومع آمال التحديث التي حملها، و لازال، العهد الجديد منذ 1999.

فكرة الوطنية الثانية مرتبطة بالتحديات المتعلقة بتوسيع المشاركة السياسية خاصة لدى الشباب والنساء، ولدى الطاقات السياسية والمدنية المنتمية إلى “المغرب العميق” أو على الأصح الى ” المغرب الغاضب”،

فكرة الوطنية الثانية مرتبطة بفكرة المصالحة. المصالحة ليس بالمعنى الذي يحيل حصرا على الانتهاكات المرتبطة بالحقوق المدنية و السياسية فقط، بل المصالحة بخصوص انتهاكات الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية والمجالية. ولنا في الحالة المغربية أمثلةكثيرةتستوجب من الحزب بلورة مبادرات بشأنها (محسن فكري، الأراضي السلالية، حقوق سكان العالم القروي والمناطق الجبلية والغابوية والمنجمية، التأخر في مجال ضمان الحقوق اللغوية و الثقافية الأمازيغية، حقوق مغاربة العالم في المشاركة السياسية وغيرها كثير.

لذلك أقول، أخواتي إخواني، أن بلادنا لا زالت في حاجة إلى حزب كالذي اجتمعنا منذ ما يزيد عن عشر سنوات من أجل تأسيسه. هي في حاجة إلى حزب الأصالة والمعاصرة كبؤرة لاستقبال التطلعات المشروعة لشعبنا ومواطنينا وقراءتها وسبر رسائلها على جميع المستويات والجواب عليها ضمن مخرجات على شكل مبادرات واقتراحات وسياسات ومواقف تعبر عن تلك التطلعات. حينها سيصبح للحزب معنى ، حينها سيصبح الحزب أداة ديناميكية متفاعلة، نابضة بالحياة، أداة للتغيير لا ملاذا للطموحات الشخصية الغارقة في الانتهازية.

لذلك لم تعد هناك فائدة في نظري للاعتداد بتقريري هيئة الإنصاف والخمسينية. وهنا لا بد أن أوضح ولو بدا لكم الأمر مفاجئا. ذلك أن مؤسسي حزبنا – وهنا أسمح لنفسي بتحيتهم بلا استثناء أينما كانوا اليوم – حينما أقدموا على تأسيسه مع تبني التقريرين المذكورين، فإنما كانوا يتبنَّون المنهجية لا المضمون بالضرورة. منهجية الشجاعة في قراءة الواقع بلا تردد ولا خوف واستشراف المستقبل بعزم وثبات ومسؤولية. هذا ما يجب في نظري أن نبرزه اليوم في هذا الأمر. وهذا ما يفرض علينا اليوم أن نتبنى تلك المنهجية بلا تردد أو إبطاء.

بهذه الروح يجب أن نمضي إذن إلى موعدنا الجماعي المقبل: المؤتمر الوطني الرابع الذي يفترض ان نشكل في دورة مجلسنا الوطني هذه لجنته التحضيرية بنفس وحدوي وبأقصى درجات الالتزام والمسؤولية.

اخواني أخواتي :

لست أفشي سرا إذا قلت بأن الحزب يقف اليوم على عتبة مفترق الطرق. انني أتحسس وأرى امامي طريقين لا ثالث لهما : طريق الانحدار التدريجي وهذا ما لا نرضاه ولا نريده وما سوف نكافح من أجل ألا يحدث، وطريق انبعاث جديد وهذا ممكن وممكن جدا ومطلوب بإلحاح شريطة أن نتحمل مسؤوليتنا أمام الله وأمام الوطن وأمام من وضعوا يوما ثقتهم في هذا المشروع .

ولذلك وعلى ذكر المسؤولية ،أود ان احيي بحرارة ،من جديد ، وباسم كل المناضلات والمناضلين الشرفاء، وأن اعبر عن الاعتزاز والتقدير والتنويه بالمبادرة التي أطلقها إخواننا الأمناء العامون الخمسة ( مبادرة نداء المسؤولية) : شكرا لك الأخ حسن بن عدي ، شكرا لك الأخ د.محمد الشيخ بيد الله، شكرا لك الأخ مصطفى البكوري ، شكرا لك الأخ محمد بنحمو، شكرا لك الأخ علي بلحاج . انتهز هذه الفرصة لأقول لكل من غادرونا أو ابتعدوا عنا لسبب من الأسباب عودوا فالحزب والوطن بحاجة اليكم.

المسؤولية اذن وكدت أقول إعادة تعريف المسؤولية هي العنوان والشعار الذي ينبغي أن يؤطر مسيرتنا الجماعية نحو المؤتمر الوطني القادم . مؤتمر نريده أن يكونمؤتمر الحقيقة والوضوح ومؤتمر الصعقة التي تعيد إلى القلب دقاته المنتظمة القوية وتعيد الوهج للروح التي خالطتها الشكوك. مؤتمر يجب أن يكون مناسبة،لا أقول لتشخيص أعطابنا ومثبطاتنا فقد استهلكنا الكثير من الوقت وأضعنا الكثير من الجهد والطاقة في ذلك ، ولكن مناسبة لمداواة ومعالجة اعطابنا وأمراضنا لا ساحة لاحتفالية تواصلية زائفة، وذلك على أساس أوراق مجددة في المضمون والمنهج في كل المواضيع التي تهم عملنا السياسي أكانت سياسية أو دستورية أو اجتماعية أو ثقافية أو قيمية، أوراق تستدمج المستجدات المتلاحقة وتسمي الأشياء بمسمياتها وتضع الأشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة على أساس تعاقدات واضحة ودورات تقييمية معلومة واستعداد حقيقي للتداول على المسؤولية وطموح صادق لتحقيق المناصفة في أجهزتنا كلما أمكن، وفي تشجيع تجديد النخب داخلنا.

ذاك هو ثمن مساهمتنا في الصيرورة الضرورية التي يجب أن تتوج باسترداد الثقة في جدوى العمل السياسي والحزبي والنقابي في بلادنا. هذا الاسترداد الذي يسائل كل الفاعلين السياسيين وكل المؤسسات الدستورية بلا استثناء في بلادنا…

إن هذا الحرص ينتمي إلى همٍّ آخر من همومنا المشروعة وهو المساهمة في وصل جيل الإصلاحات الجديدة الضرورية المطلوبة بالإصلاحات التي عرفتها بلادنا خاصة في العشرية الأولى لعهد جلالة الملك محمد السادس. كما أن حرصنا على الاستجابة إلى مطامح شعبنا ومواطنينا في تحقيق مطالبهم المشروعة لا يوازيه إلا حرصنا على استقرار بلادنا وحماية وحدتها الترابية من كل مطمع معلن أو مستتر، جهوي كان أو غيره. وإذ نؤمن ببداهة هذا التشبث فلأننا نعلم علم اليقين أن لا أحلام لنا ولا مستقبل جماعي لنا إلا على هذه الرقعة الحبيبة من جغرافيا العالم: المغرب.

المغرب الضامن لوحدته وأمنه، المغرب المتصالح مع نفسه، المغربالمنصت لتطلعات مواطنيه، المغربالقادر على تطوير وتحسين اشتغال مؤسساته، المغربالمنهمك في صيرورات التعاون مع امتداده الإفريقي، وعلى ترسيخ نجاحاته وإنجازاته على المستوى الدبلوماسي في كل الفضاءات الجغرافية والاقتصادية والإستراتيجية والدينية والثقافية، المغربالحامل لمشعل التعايش والتسامح في الموقع الذي اختارته له الجغرافيا والتاريخ على السواء: نقطة التقاء حكيم بين أفريقيا والعالم العربي وأوروبا، نقطة التقاء حضاراتها ولغاتها وطرق تجارتها ومساهماتها في التراث والمستقبل المشترك للبشرية…

الأخوات والاخوة الأعزاء

رجاءا لا تدعوا شعاع اّلأمل يضعف.

رجاءا احرصوا على أن تظل جذوة الثقة متقدة : الثقة في أنفسنا وفي بعضنا البعض، والثقة في قدرة بلدنا على مواجهة الصعاب والتحديات كما كانت دوما على مدى تاريخها الطويل والممتد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.