بن شماش: التحولات الاجتماعية العميقة تستدعي إعادة التفكير في ثقافة الاحتجاج والأطر المعيارية والتنظيمية المتصلة بممارسته

0 972

كلمة السيد رئيس مجلس المستشارين،ذ.حكيم بن شماش
في اليوم الدراسي المنظم من طرف مجلس المستشارين والمجلس الوطني لحقوق الإنسان حول موضوع:” الجمعيات والتجمعات”، تخليدا للذكرى 60 لصدور ظهير الحريات العامة.

الخميس 15 نونبر 2018، قاعة الندوات – مجلس المستشارين.

 

يسعدني في البداية أن أرحب بكم في هذا اليوم الدراسي المنظم من طرف مجلس المستشارين بتعاون مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، شريكنا الاستراتيجي الذي دأبنا على التعاون معه وطلب خبرته واستشارته في العديد من القضايا ذات الصلة بمجال اختصاصه،والذي ساهم بمذكراته وتقاريره الموضوعاتية في مسار إنتاج العديد من القوانين التنظيمية والعادية. والشكر موصول أيضا لمؤسسة وستمنستر للديمقراطية على دعمها المستمر لأنشطة مجلسنا الموقر.
حضرات السيدات والسادة؛

يعد الحق في تأسيس الجمعيات وحريات الاجتماع والتجمع والتظاهر السلمي من الحقوق الأساسية التي تحميها وتؤطرها العديد من الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وعلى رأسها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وتشكل ركيزة من ركائز المجتمعات الديمقراطية. كما أكدت الهيئات التعاقدية الأممية المنبثقة عن الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان، وكذا الهيئات غير التعاقدية على هذه الحقوق والحريات وعلى  وجوب ضمان ممارستها بشكل سليم وبدون قيود إلا تلك التي ينص عليها القانون في مجتمع ديموقراطي.

وفي هذا السياق يذكر القرار 24/5 الذي اعتمده مجلس حقوق الإنسان، في 8 أكتوبر 2013 بخصوص الحق في التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات (1) الدول “بالتزامها باحترام وحماية بشكل كامل الحق في التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات لجميع الأفراد، سواء على الانترنت أم لا …. واتخاذ جميع التدابير اللازمة لضمان أن تكون القيود المفروضة عند الاقتضاء على حرية ممارسة الحق في التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات منسجمة مع التزاماتها بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان ” .

أما فيما يتعلق بتأسيس الجمعيات، فقد أشار المقرر الخاص المعني بالحق في التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات، في تقريره الذي قدمه(2) في 24 أبريل 2013 إلى مجلس حقوق الإنسان، تطبيقا للقرارين15/21 و 21/16 الصادرين عن المجلس إلى أن “الحق في حرية الجمعيات لا يشمل الحق في تأسيس الجمعيات فحسب، وإنما يكفل أيضا حق هذه الجمعيات في القيام بكل حرية بالأنشطة التي أنشئت من أجلها، مع العلم بأن حماية الجمعيات المكفولة بموجب المادة 22 تمتد لتطال جميع أنشطة جمعية بعينها [ … ] ” وأوضح، علاوة على ذلك، أن حرية الجمعيات لا يمكن أن تخضع إلا لبعض القيود التي يجب أن تكون متطابقة مع الفقرة 2 من المادة 22 من العهد. وشدد أيضا على أن الحرية ينبغي أن تكون هي القاعدة والتقييد هو الاستثناء وأن من المبادئ الأساسية لحرية تأسيس الجمعيات هي افتراض أن أنشطة الجمعيات مطابقة للقانون .

وضمن نفس المنحى، أوصت المقررة الخاصة المعنية بحالة المدافعين عن حقوق الإنسان، الدول في تقريرها(4) الذي وجهته إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في 10 غشت 2012 ” بالسهر على أن تتضمن التشريعات الوطنية التي وُضعت من أجل الأمن العام والــنظام الـعام أحكاما واضحــة لا تحتمل أي تمييز في تطبيقها، ولاسيما باعتبارها رد عن ممارسة الحقوق في مجال حرية التعبير والتجمع السلمي وحرية الجمعيات “، وأن على تلك الدول ” التأكد من أن متطلبات التصريح المفروضة على الجمعيات معقولة ولا تمس باستقلاليتها الوظيفية. ”

حضرات السيدات والسادة
من باب التذكير ، نص دستور 2011، بالخصوص الفصل 12 منه، على” حرية تأسيس جمعيات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية وحرية ممارسة أنشطتها في نطاق احترام الدستور والقانون”. وكذا الفصل 29الذي ينص على أن: “حريات الاجتماع والتجمهر والتظاهر السلمي، وتأسيس الجمعيات والانتماء النقابي والسياسي مضمونة. ويحدد القانون شروط ممارسة هذه الحريات”. وكما لا يخفى على علمكم، فقد عملت بلادنا منذ الحصول على الاستقلال، على تبني قوانين من أجل ضبط ممارسة هذه الحقوق والحريات، وبالخصوص ظهير 15 نونبر 1958، الذي تم تعديله وتتميمه في عدة مناسبات.
وتوخيا للموضوعية، ودون الخوض في المزيد من التشخيصات حول وضعية الممارسة ببلادنا، ودون استباق التدخلات اللاحقة خلال هذا اليوم الدراسي وخاصة من قبل النشطاء الجمعويين، اسمحوا لي التذكير ببعض المعطيات الدالة التي بسطها المجلس الوطني لحقوق الإنسان، كمؤسسة دستورية وطنية، في تقريره المقدم أمام غرفتي البرلمان يوم الإثنين 16 يونيو 2014 ، بناء على ما توصل به من معطيات من وزارة الداخلية، حيث سجل أن سنة 2011 قد شهدت تنظيم 23121 تجمعا ومظاهرة (ضمنها 1683 بالجهات الجنوبية الثلاث للمملكة أي 7,27 %) و20.040 تجمعا ومظاهرة سنة 2012 (ضمنها 935 في الجهات الجنوبية الثلاث للمملكة أي 4.66 %) و 16.096 تجمعا ومظاهرة سنة 2013 (ضمنها 825 في الجهات الجنوبية الثلاث للمملكة أي 5.12 %)، غطت كل التراب الوطني.

وعلى الرغم من عدم استيفاء الأغلبية الساحقة لهذه التجمعات المنظمة فعليا للشروط القانونية والمتعلقة بضرورة التصريح القبلي طبقا لمقتضيات الفصل 11 من ظهير 15 نونبر 1958، فإن هذا الأمر لم يمنع المواطنات و المواطنين من ممارسة حقهم في التظاهر في الشارع العام. كما سجل المجلس أنها قد حافظت على طابعها السلمي ولم تشهد عنفا إلا في حالات محدودة جدا.

ووفق المعطيات التي توصل بها المجلس الوطني لحقوق الإنسان من وزارة العدل والحريات فإن سنة 2014 لوحدها قد شهدت لجوء 13 جمعية إلى القضاء فيما يخص المطالبة بتمكينها من وصل الإيداع القانوني تطبيقا لمقتضيات المادة 5 من ظهير 1958 المنظم لحق تأسيس الجمعيات، وشهدت نفس السنة صدور 17 حكما عن مختلف محاكم المملكة في نفس الموضوع: 9 أحكام منها لفائدة الجمعيات المشتكية و8 أحكام لفائدة الإدارة في مواجهة الجمعيات.كما شهدت نفس السنة تنظيم ما مجموعه 10.160 تظاهرة وتجمع شهدت مشاركة 496.550 مواطنة ومواطن بمعدل يومي يصل إلى 31 تظاهرة وتجمع.

وفي نفس الإطار فقد شهدت سنة 2014، تصدي القضاء المغربي لموضوع الحق في التظاهر والتجمع، إذ عرضت 8 قضايا على مختلف المحاكم صدرت إثرها 6 أحكام لفائدة الإدارة الترابية في مواجهة الهيئات المشتكية و02 حكمين لفائدة الهيئات المشتكية. وتبعا لذلك، خلص المجلس الوطني لحقوق الإنسان إلى معطى جوهري يتمثل في قصور الإطار القانوني الحالي (الظهير المتعلق بالتجمعات العمومية) عن استيعاب أشكال جديدة من التعبيرات والممارسات ذات علاقة بالحق في التظاهر السلمي والتي تزايد اللجوء إليها.

حضرات السيدات والسادة
إن واقع الممارسة ببلادنا ليس معزولا عن ما يقع في العالم، – ولو على الأقل من حيث العراقيل والقيود التي تحد من حرية الجمعيات والتجمعات-، فقد حدد المقرر الخاص المعني بالحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، (كليمون نيالتسوسي فولي)، في تقريره الأخير()،ثمانية اتجاهات على الصعيد العالمي فيما يتعلق بالقيود المفروضة على ممارسة الحق في حرية التجمع السلمي وتكوين الجمعيات، وهي:

” (أ) استخدام التشريعات لقمع الممارسة المشروعة لحرية التجمع السلمي وحرية تكوين الجمعيات؛ (ب) وتجريم الاحتجاجات السلمية والاستخدام العشوائي والمفرط للقوة في مواجهتها أو قمعها؛ (ج) وقمع الحركات الاجتماعية؛ (د) ووصم الفاعلين في المجتمع المدني والاعتداء عليهم؛ (ه) وفرض قيود على فئات محددة؛ (و) وتقييد الحقوق خلال الفترات الانتخابية؛ (ز) والتأثير السلبي لتصاعد الشعبوية والتطرف؛ (ح) وفرض عراقيل في الفضاء الرقمي.”

وفي علاقة بتنفيذ خطة عام 2030 بشأن أهداف التنمية المستدامة، يعتقد ذات المقرر الخاص بخصوص دور الجمعيات “أن أحد العناصر الهامة لتهيئة بيئة تمكينية يتمثل في الاعتراف بالقيمة المتأصلة للمجتمع المدني وإيجاد فضاءات مؤسسية هادفة يمكن في إطارها الاستماع إلى آرائه المتنوعة والتعددية ومنحها ما تستحق من اهتمام في سياق إسهامه في تحقيق جميع الأهداف.”

حضرات السيدات والسادة
إذا ما أخذنا بعين الإعتبار المعطيات أعلاه وكذا التحولات الاجتماعية العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي وتنامي الطلب على المزيد من الحقوق والحريات ولاسيما منها الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وتنوع وتعاظم الديناميات الاحتجاجية والتي اتخذت وتتخذ أشكالا جديدة وتعتمد على تقنيات للتعبئة وحشد الدعم غير معتادة، وانحباس منظومة الوساطة والتأطير ، فإنها لوحدها تستدعي إعادة التفكير في ثقافة الاحتجاج والتنظيم من جهة والأطر المعيارية والتنظيمية ذات الصلة بممارسة هذه الحقوق.

وفضلا عن ذلك، تقتضي الضرورة، الاسترشاد بما ورد في مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان ، بخصوص حرية الجمعيات بالمغرب، الموجهة لرئيس الحكومة في نونبر 2015، بشأن القيام بإصلاح للإطار القانوني المنظم للجمعيات بما “يجعله قادرا على تقديم حلول قانونية ومؤسساتية لسلسلة من الإشكاليات الأساسية حتى يستعيد منطق الحرية والمنطق التصريحي للإطار القانوني المنظم للجمعيات، أما بشأن التجمعات العمومية، يستلزم الأمر أيضا استحضار مقترح المجلس الرامي إلى ضرورة مراجعة الظهير وملاءمته مع مرحلة ما بعد دستور 2011، حتى يكون مطابقا للوثيقة الدستورية”.

وأثير الانتباه،الى إشكالية أخرى مرتبطة بالموضوع، وهي إشكالية معقدة وعويصة تسائل جميع المؤسسات، في ظل استعمال ما يناهز 18 مليون مستخدم للأنترنيت، تتمثل في تنامي الشعبوية وما تعرفه مؤسسات الوساطة من أزمات للاضطلاع بوظائفها، في ظل الواقع المتأزم لمنظومة التعليم، وعدم مواكبة الإعلام العمومي لأسئلة المجتمع، إذ يلاحظ ان هناك توجهات لاتساع مساحة التبخيس والعدمية والنهش في أعراض الناس وتشويه سمعتهم..، وهو ما يطرح ربط إشكالية الحرية بالمسؤولية.

حضرات السيدات والسادة

اسمحوا لي، في ختام هذه المداخلة، أن أعبر لكم عن أملي بأن تفضي أشغال هذا اليوم الدراسي إلى مخرجات وحلول لتجاوز الإكراهات السياسية والقانونية والمسطرية، التي تحد ليس فقط، من ممارسة الحريات العامة ولكن أيضا من أجل إذكاء الوعي لاستكشاف سبل تجاوز أعطاب الوساطة بين الدولة والمجتمع، لكون الجمعيات تشكل إحدى آلياتها من جهة ولكونها يجدر أن تلعب دورا استراتيجيا في التأطير وفي التوطيد الديمقراطي والنهوض بالالتزام المدني للمواطنات والمواطنين من جهة ثانية، ولأنها تشكل، في آخر المطاف، فضاء لتركيز المواطنة الواعية والمسؤولة في الحياة العامة وتعزيز الديمقراطية التشاركية.

وشكرا على حسن إصغاءكم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.