ملاحظات حول مستقبل ظاهرة التعليم عن بعد ..

0 1٬019

د.حميد النهري،

لا زالت تداعيات جائحة كورونا تقلق وتربك اغلب دول العالم حيث أجبرت انعكاساتها القوية الجميع على تبني مجموعة من الإجراءات الاحترازية أهمها استمرارية حالة الطوارئ الصحية.

وحاليا بدأت بعض الدول في تحدي آخر هو سياسة الرفع التدريجي لحالة الطوارئ، وببلادنا دخلنا في مرحلة تمديد الحجر الصحي إلى غاية 10 يونيو 2020. ونتيجة هذه الجائحة أصبحت جل الحكومات مقتنعة بضرورة تبني لسلسلة من التغييرات الآنية والمتوقعة.

هذه التغييرات لن تستثني أي مجال: الاقتصادي الاجتماعي القانوني الثقافي السياسي البيئي … كما أن المجتمعات مطالبة اليوم بالانخراط في هذه التغييرات من خلال إعادة النظر في سلوكاتنا وتبني تغييرات جديدة على مستوى: أنشطتنا، علاقاتنا، عاداتنا، اهتماماتنا مواقفنا، وذلك بضرورة التنازل والتخلي عن بعضها أو ملائمتها مع الوضع الجديد.

فنحن أصبحنا أمام واقع جديد من الضروري استيعابه هذا الواقع مُؤَثِر ومُؤَطَر زمنيا بمرحلة ما قبل الجائحة ومرحلة خلال الجائحة ومرحلة ما بعد الجائحة.

وسنتطرق في هذا المقال لظاهرة التعليم عن بعد الذي فرض نفسه كحل بديل لتوقيف الدراسة الحضورية خلال الجائحة –في انتظار العودة إلى الوضع العادي بداية الموسم الجامعي المقبل-. حيث أصبحت اليوم تطرح العديد من السيناريوهات حول مستقبل التعليم عن بعد بالنسبة لمؤسساتنا الجامعية ؟

فالحقيقة، أن جائحة كورونا هي التي فرضت تبني آليات تعليمية بديلة شكلت تقنية التعليم عن بعد إحدى أهم وأبرز هذه الآليات حتى أن هذه التقنية أصبحت تعتبر اليوم ظاهرة أكاديمية بامتياز.

وإذا رجعنا إلى بداية انتشار فيروس كورونا عبر دول العالم سنجد أن المغرب كغيره من البلدان المتضررة من جائحة كورونا نهج مجموعة من الإجراءات الاحترازية الوقائية لمواجهة هذه الجائحة الخطيرة ووقف انتشارها.

لذلك كان قرار الوزارة الوصية على قطاع التعليم الذي قضى بتعليق الدراسة بجميع المؤسسات التعليمية انطلاقا من 16 مارس 2020 إلى أجل آخر، تبعه قرار الحجر الصحي انطلاقا من 20 مارس 2020، إلى غاية 20 ماي، لكن جرى الإعلان عن تمديد آخر إلى غاية 10 يونيو 2020.

وتميز قرار وزارة التربية الوطنية والتعليم العالي بتأكيده على توقيف الدراسة الحضورية وتعويضها بآلية التعليم عن بعد لضمان استمرارية الدراسة وفي نفس الوقت جعل الطلبة يلزمون بيوتهم للتقليل من عدد الإصابات بفيروس كورونا.

إذن هذه الوضعية المفاجئة والتي لم يكن أحدا مخططا لها هي التي فرضت التوجه نحو آلية التعليم عن بعد كحل بديل لضمان الاستمرارية البيداغوجية خلال هذه الظرفية الاستثنائية.

لذلك نجد تباينا لتجارب المؤسسات الجامعية المغربية في تطبيق آلية التعليم عن بعد. خلال الجائحة، ويرجع هذا التباين إلى عدة أسباب أهمها:

محدودية الجاهزية التقنية، حيث تبين أن هناك ضعف كبير على صعيد التجهيزات التقنية المتوفرة بالنسبة لأغلب المؤسسات الجامعية المغربية والتي تفتقر أغلبها إلى الإمكانيات التقنية لتطبيق آلية التعليم عن بعد.

كما ظهرت هذه المحدودية على صعيد فئة الأساتذة الذين لم يخضعوا إلى تدريبات في مجال التعليم عن بعد بالإضافة إلى افتقارهم للتجهيزات التكنولوجية المواكبة.

وبالنسبة للطلبة والطالبات، أي الفئة المستهدفة من عملية التعليم عن بعد فأغلبهم (هن) يفتقرون ويفتقرن إلى الإمكانيات والوسائل التكنولوجية لمسايرة هذه التقنية. كما تبرز أيضا إشكالية عدم الجاهزية من ناحية المبدأ، فغالبا ما كان هناك رفضا قاطعا من طرف بعض الفاعلين لآلية التعليم عن بعد.

وكانت دائما هناك مقاومة لأي سياسة تشجع على الانتقال إلى نظام تعليمي معتمد أكثر على الوسائل الإلكترونية الحديثة.

عموما تجربة التعليم عن بعد أصبحت في ظل الحجر الصحي ظاهرة أكاديمية تميز حاليا سياسة التعليم بمختلف الجامعات المغربي، بل وتعتبر موضوع نقاشات حيث لقيت ردود فعل ما بين مؤيد ومعارض.

بالنسبة للمؤيدين، يرون في هذه التجربة فرصة للتحول الرقمي في العملية التعليمية .مرددين تلك النداءات والتوجهات السابقة التي كانت دائما تنادي بتبني هذه التقنية بل أكثر من ذلك فإن هذه الفئة ترى في تجربة تطبيق آلية التعليم عن بعد من جهة أفضل بديل وحل لضمان استمرارية التحصيل الأكاديمي خلال هذه الجائحة.

ومن جهة أخرى فرصة كبرى لدخول نظامنا التعليمي الجامعي إلى عالم التكنولوجيا لمواكبة التطور، خصوصا وأن عالم التكنولوجيا أو الوسيط التكنولوجي بجميع أشكاله أصبح يفرض نفسه بقوة كمرجع لجميع العلوم والمعارف. ولذلك ففي نظرهم لا بد من الاستفادة منه في سياستنا التعليمية حاليا في ظل الحجر الصحي وما بعد نهايته.

أما بالنسبة للمعارضين، فلم يتأخروا في توجيه مجموعة من الانتقادات منذ بداية التجربة، وذلك من خلال الطريقة المعتمدة من طرف المؤسسات الجامعية في تطبيق التعليم عن بعد خلال هذه الجائحة. حيث برروا انتقادهم بعدم جاهزية هذه المؤسسات وعدم كفاءة أطرها – في نظرهم- في التعامل مع هذه التقنية المعقدة.

وكذلك برروا انتقادهم من خلال صعوبة ضمان مبدأ تكافؤ الفرص في تقنية التعليم عن بعد هذا المبدأ الذي يعد مقدسا في مجال التعليم.

وهناك للأسف، بعض هؤلاء المعارضين من ذهب إلى حد التبخيس بكل المجهودات المبذولة رغم أهمية بعضها، وبل وتصوير التجارب المختلفة لتقنية التعليم عن بعد في الجامعة المغربية بشكل مشوهة نتج عنها في نظرهم منتوجا سلبيا كاريكاتوريا. حتى أن هناك من اختار طريق الهجوم اللأخلاقي على فئة الأساتذة الذين انخرطوا في التجربة.

حيث انتشرت للأسف عبر مواقع التواصل الاجتماعي مجموعة من التصريحات والتسجيلات الصوتية تستهزئ بفئة الأساتذة وتقلل من قيمة مجهوداتهم. الشيء الذي جعل وزير التربية الوطنية والتعليم العالي يصدر بلاغا قويا أدان من خلاله هذه الممارسات، كما أثنى على جهود الأساتذة الذين انخرطوا في هذه التجربة رغم الإمكانيات المحدودة جدا. مشيرا إلى أن الظرفية الصعبة هي التي فرضت عملية اللجوء إلى التعليم عن بعد كحل بديل لضمان استمرارية المحاضرات وضمان فعالية إجراءات الحجر الصحي.

عموما نحن أمام واقع فرضته جائحة كورونا أدى بالوزارة الوصية إلى تعليق الدراسة واختيار التعليم عن بعد الإلكتروني أو التلفزي كبديل الغاية منه هي استمرارية الدراسة وجعل الطلبة يلزمون بيوتهم لمواجهة الوباء. لذلك اليوم يتردد سؤال مهم: هل ساهمت هذه التجربة فعلا في ضمان استفادة الطلبة من المحاضرات والدروس المتبقية للفصل الأخير للموسم الجامعي 2019/ 2020؟

وهنا بطبيعة الحال، سنكون غير موضوعيين إذا قلنا أننا باستطاعتنا تقييم هذه التجربة الجديدة. لكن من خلال بعض الإحصائيات الأولية لتجارب بعض المؤسسات الجامعية يتبين أن التجربة بالرغم من الإكراهات والصعوبات المادية والبشرية، فإن النتائج كانت إيجابية واستطاعت إلى حد ما إنقاذ الموسم الجامعي في هذه الظرفية الصعبة.

ويمكن لهذه التجربة أن تؤسس لبناء تصور مستقبلي لإدماج وبقوة لتقنية التعليم عن بعد في المنظومة التعليمية بجامعاتنا لكن داخل مناخ أكثر ملاءمة مع توفير الشروط العلمية واللوجيستيكية. لأن الملاحظ أن التعليم عن بعد أخذ مساحة أكبر مقارنة مع مرحلة ما قبل الجائحة، ولذلك يجب التعامل معه معطى جديد أصبح يفرض نفسه كأمر واقع خصوصا وأنه لا أحد يعلم موعد زمني لنهاية هذه الجائحة.

فالمطلوب اليوم هو دعم هذه التجربة وصيانة مكتسباتها والتركيز بالأساس على انقاد الموسم الجامعي في مراحله النهائية.

فتكاثر الشائعات والأخبار المزيفة حول سيناريوهات سلبية من قبيل سنة دراسية بيضاء تقتضي ضرورة تقديم الوزارة الوصية للمعطيات الضرورية حول ما تبقى من الموسم الدراسي الجاري وتبديد شكوك وتساؤلات طالباتنا وطلبتنا حول مستقبلهم.

فالرهان الأول المطلوب اليوم هو الإعلان عن خطة في ما يتعلق باستئناف الموسم الجامعي وإجراء الامتحانات. وليس ما أصبح يتردد للأسف عند البعض من توسيع استعمال تقنية التعليم عن بعد إلى مجالات تتجاوز التدريس في الجامعة إلى البحث العلمي من قبيل مناقشات رسائل الدكتوراه وبحوث الماستر عن بعد. بل هناك من ذهب إلى حد مناقشة ترقيات السادة الأساتذة من قبيل التأهيل الجامعي وذلك بتقنية (المناقشة عن بعد).

وهنا في الحقيقة، سنكون أمام نوع من العبث، نظرا لغياب الشروط القانونية واللوجيستيكية الغير متوفرة لمثل هذه التقنية. والتي ستؤدي حتما إلى إفشال التجربة برمتها. فالمنطق يقضي بأن التعليم عن بعد لا يمكنه أن يعوض التعليم الحضوري، لأن الأخير ضروري، فالجامعة ليست فقط فضاء للتدريس والبحث العلمي، ولكن الحياة الجامعية تخلق شخصية الطالب الذي سيتحمل المسؤولية مستقبلا داخل المجتمع.

إن تحديد الشروط خصوصا التقنية البيداغوجية لبناء تصور مستقبلي لتقنية التعليم عن بعد تحتاج إلى دراسات متخصصة واستطلاعات للرأي ومشاورات مع جميع الفاعلين في المجال.

لكن سنحاول من خلال قراءة في تجربة التعليم عن بعد خلال هذه الجائحة تحديد بعض الشروط الأساسية والضرورية لضمان تطبيق آلية التعليم عن بعد في نظامنا التعليمي ما بعد الجائحة وذلك كمكمل أساسي للتعليم الحضوري تتمثل في:

1- تفعيل مقتضيات الفصل 31 من دستور 2011 الذي ينص على: تعمل الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية، على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في الحصول على تعليم عصري ميسر الولوج وذي جودة.

إذن الاستثمار العمومي في قطاع التعليم مع ضرورة انخراط الدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية بمختلف هيئاتها في إطار استراتيجية بعيدة المدى لجعل التعليم عن بعد كمكمل للتعليم الحضوري داخل منظومتنا التعليمية.

2- انخراط جميع شركات الاتصالات في هذا المشروع الكبير وذلك بخلق خلية على صعيد مصالحها خاصة بالتواصل المباشر مع المؤسسات الجامعية.

وبالنسبة للجانب التقني ضرورة تدخل هذه الشركات لتوفير صبيب الأنترنت مرتفع ومناسب لضمان نجاح أفضل لتقنية التعليم عن بعد، والاستعداد التقني الاحترافي لمواجهة الارتفاع المنتظر على مستوى الضغط وعلى مستوى المشاكل التقنية.

3 – تمكين جميع الطلبة والطالبات من التجهيزات الضرورية والملائمة لتقنية التعليم عن بعد، تأخذ بعين الاعتبار محدودية مشاريع سابقة عرفتها المؤسسات الجامعية لكن نتائجها كانت كارثية افتقدت إلى الجودة. كما يجب أن تأخذ بعين الاعتبار استعمال مقاربة النوع من خلال مراعاة الوضعية الاجتماعية لأغلب الطلبة والطالبات.

4 – تكوين الأساتذة الباحثين والطاقم الإداري للمؤسسات الجامعية على استعمال الوسائل التكنولوجية وتحفيزهم على الانخراط الفعلي في ذلك.

5 – تجهيز مؤسسات جامعية حقيقية في إطار سياسة استراتيجية متكاملة وتجاوز السياسة المعتمدة والمتمثلة في إنشاء مؤسسات جامعية ضعيفة. مع ضرورة تجهيز هذه المؤسسات باستديوهات احترافية تابعة لها وتحت إشرافها المباشر مع توفير لهذه الأستديوهات الموارد البشرية المختصة اللازمة والتجهيزات التكنولوجية الملائمة وذات جودة عالية.

6- إعادة النظر في سياسة التعليم والاستثمار العمومي في قطاع التعليم والقطع مع فكرة خصوصة التعليم التي تبين فشلها خلال جائحة كورونا.

د.حميد النهري، أستاذ ورئيس شعبة القانون العام بكلية الحقوق (طنجة)، عضو المجلس الوطني للحزب

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.