من “التهريب المعيشي” إلى “تهريب البشر”

0 509

“قوارب الموت” التي يحلم كل من يركبها بحياة أفضل وفرصة عمل بعدما استحال الأمر أو صعب في الوطن الأم، وتكللت عملية البحث عن الفرصة المنشودة بالفشل أو الانعدام من الأصل، (القوارب) تعود بقوة إلى شط الواجهة بعدما كانت قد رست وتراجعت إلى الوراء خلال فترات معينة، خصوصا في المراحل الأولى لانتشار فيروس كورونا عبر دول العالم، وهو ما فرض إغلاقا تاما في وجه الحركة والتنقل سواء عبر البر أو البحر أو حتى الجو، وهو الإغلاق الذي شمل حتى الذين يتوفرون على تأشيرة العبور، بينما كان الباحثون عن فرصة “غير قانونية (الحراكة) يرقبون من بعيد مد البحر وجزره وينتظرون استقرار الوضعية الوبائية ليجربوا حظهم لعلهم يحظون بفرصة الخلاص.

العديد من المناطق على امتداد التراب الوطني تشهد حركية دائمة من طرف شباب اختار دخول المغامرة مع البحر غير عابئ بالمخاطر المحتملة، بحثا عن فرصة لتحسين عيشه والتمكن من الوصول إلى مدخول ينقذ به وضعه الاجتماعي ووضع محيطه الأسري. والقوارب التي لا مجال للتفصيل بشأن الخطر المتربص بها، تواصل كذلك الرحلة في اتجاه شط، يعــد بمثابة نقطة بداية النجاة والأمان، بالنسبة لكل من جرب “الحريك” من شواطئ المغرب في اتجاه أوربا عبر سواحل البوابة الإسبانية.

عادت “قوارب الموت” إلى الواجهة بعدما شهدت بعض الاستقرار في لحظات معينة، لأن الباحثين عن ذات القوارب كانوا منشغلين، الكل يبحث في اجتهاد عن فرص من أجل الوصول للقمة العيش حيث المجال الترابي (المدن، القرى) الذي يقطن به، لكن هذا الوضع لم يعدا مستقرا، وصارت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في العديد من المناطق تشهدا تدهورا كبيرا على عدة أصعدة، أدت إلى نتائج من الصعب على المواطن خاصة والأسر بشكل عام تحملها.

ولاستحضار بعض ملامح الأزمة الحالية، لا ضير في أن نعرج على واقع معيش داخل مناطق معينة تعتبر بمثابة نقط مصدرة للحالمين بالفرصة الممكنة بعد اجتياز الحدود البحرية.
ففي إقليم الناضور مثلا، تراجعت دوامة الحركة التجارية وانخفض فيها إيقاع العجلة الاقتصادية إلى أدنى مستوياته، والسبب في ذلك هو أن المنطقة ارتبطت بشكل كبير بما ينتجه “الاقتصاد المعيشي” الناجم عن “تهريب” مواد استهلاكية وغيرها من داخل مدينة مليلية المحتلة.

وكان هذا الشكل من التجارة اللاقانونية يشغل فئات عريضة ليس من أبناء الإقليم فحسب وإنما من أبناء باقي عمالات وأقاليم الجهة الشرقية وغيرها، خاصة وأن هذه المنطقة لم تشهد طيلة سنوات تحقيق التنمية المنشودة التي توفر فرص شغل حقيقية تضمن الاستقرار للشباب العاطل عن العمل، شباب منهم حملة شواهد عليا تخرجوا من الجامعات ومعاهد عليا، ومنهم أصحاب دبلومات مهنية وآخرون من ذوي مستوى تعليمي متوسط ومنهم من لم يلج فصل الدراسة من قبل.

وبعد تفعيل الإجراء الذي تمثل في إغلاق المغرب لمعبر بني انصار (إقليم الناضور) كأحد أهم المعابر الأساسية في اتجاه مليلية (هناك معابر أخرى في نفس الاتجاه: ماريواري، باريوتشينو، فرخانة)، واشتراط فتحه مجددا بتوقف الجانب الإسباني عن “احتضان” التهريب المعيشي.

الإغلاق تسبب في حالة من الكساد الرهيب الذي مس شرايين الحركة الاقتصادية بالمنطقة، وتعرض التجار وأصحاب المحلات الذي كانوا يشتغلون في ارتباط مع قطاع “التهريب المعيشي” إلى إعلان إفلاسهم وإغلاق محلاتهم والوقوف في طابور من ينتظرون الحل؟

بينما اختار آخرون مرغمين التوجه نحو أقرب ساحل والسؤال عن الإمكانيات المتاحة أمام “تهريب البشر”، وقد جربوا عدة بدائل منها تغيير نشاطهم الاقتصادي- التجاري، لكن تفشي فيروس كورونا وما نجم عنه من إجراءات وتدابير أدى بهؤلاء إلى توقيف أنشطتهم والرجوع إلى النقطة صفر، خشية الدخول في أزمة غير محسوبة العواقب مترتبة عن ديون محتملة وتراجع في الطلب على الخدمات المقدمة.

في منطقة المضيق الفنيدق، لا يختلف الوضع كثيرا عن إقليم الناضور، فإذا كانت بلادنا تشهد فرض حالة الطوارئ الصحية، فإن شباب هذه المنطقة يعيشون مع أنفسهم حالة طوارئ في انتظار فرصة الرحيل بعدما انعدمت فرص الشغل أمامهم، وحتى تلك فرص العمل التي كانت سابقا توقفت بدورها، وبالتالي فإن البطالة تزداد في أوساط الشباب، ناهيك عن الشباب الآخرين الذين وجدوا أنفسهم عرضة للبطالة بعد توقف “التهريب المعيشي” نتيجة إغلاق المعبر الحدودي من الجانب المغربي في اتجاه سبتة المحتلة، ولعلها وضعية مشابهة لوضعية إقليم الناضور مع بعض الاختلاف في تفاصيل صغيرة.

هذه الأوضاع الصعبــــة تشكل حاليا سببا أساسيا يدفع بفئات كبيرة من شباب عمالة المضيق الفنيدق ومدن مرتيل وتطوان وغيرها من المناطق المجاورة، إلى ركوب “قوارب الموت” في اتجاه سواحل إسبانيا، رحلات يوثق بعضها بالصوت والصورة التي تصم أمامها كل الكلمات والتعابير، وما أن يصل القارب إلى مستقره المنتظر حتى تطلق الأجساد العنان للقفز تجاه البر وعيونهم وعقولهم غير مستوعبة في الكثير من الأحيان بأن حلم الوصول قد تحقق، لكن في انتظار بداية جديدة لواقع ليس بالضرورة مفروشا بالورود، ولكنه يتطلب الكثير من الصبر ويستوجب طاقة كبيرة للتحمل.
عدد من شباب إقليم الحسيمة من جانبهم اختاروا سلك طريق البحر بحثا عن فرص بعدما ضاق بهم الحال، خصوصا وأن الفرص بالإقليم تكاد تنعدم، بينما أدى تراجع الإنتاج السمكي بالمنطقة إلى تقلص فرص الشغل بالنسبة لفئات عريضة من الساكنة كان مصدر دخلها الميناء والمركب المحمل بالأسماك، حيث غيرت بعض المراكب وجهتها من سواحل الحسيمة إلى سواحل أخرى، بينما اختار بحارون آخرون التوقف لإعادة ترتيب الأوراق.

والوضع لا يختلف في إقليم شفشاون الواقع في تخوم جبال الريف، فصعوبة التضاريس وقسوة المناخ في المنطقة تجعل المواطنات والمواطنين في عزلة تامة خلال فترات معينة من السنة، ولا تحقق الزراعة المعاشية منسوب التنمية المنشودة بالنسبة لفئات واسعة من أبناء الإقليم، وحتى تلك البدائل القليلة التي طرحتها الحكومة في وقت سابق للانتقال من زراعة “القنب الهندي” إلى زراعات أخرى على اعتبار أن المتحكمين في زراعة “القنب” مازالوا يسيطرون على السوق ويجنون الملايير في الوقت الذي لا يحقق فيه الفلاح البسيط سوى الفتات.
في شفشاون تقل فرص الشغل وتنعدم، وتقل أبسط الخدمات الاجتماعية خصوصا على مستوى قطاع الصحة، وأمام هذا الوضع المؤلم يراهن الكثير من الشباب على الهجرة اللاقانونية، في الوقت الذي تتوقف فيه عقارب الزمن عند شباب في زهرة العمر ما بين السقوط في براثن المخدرات أو اللجوء إلى الانتحار. ولعل الأرقام المسجلة بهذا الخصوص لخير دليل على أن الوضع في المنطقة يحتاج إلى تدخل حكومــي عاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، ولطالما نادت فعاليات جمعوية وحقوقية إلى ضرورة تحرك الجهات الحكومية الوصية من أجل إيجاد الحلول للإكراهات المعاشة بالمنطقة وضمنها البطالة كأحد الأسباب الرئيسية ل “الهجرة اللاقانونية”.

المجالس المنتخبة من جهة ورغم المحاولات المبذولة في سبيل تنزيل برامج تنموية، فإن أثرها يظل محدودا في ظل اتساع مساحة الحاجيات والمتطلبات، وحتى الميزانية المرصودة لاشتغال هذه المجالس تظل محدودة وموجهة بشكل خاص نحو مجالات معينة ولا تخرج عن نطاقها إلا في النادر من الحالات، ناهيك عن كون الصلاحيات المتاحة لهذه المجالس فيما يتعلق بالتشغيل أو الاستثمار، صلاحيات “مقيدة” جدا والمبادرة بهذا الشأن محتشمة، على اعتبار أن “التشغيل” مجال يظل حصرا في يد الحكومة المشرفة على تدبير الشأن العام الوطني.

إن المناطق التي ذكرناها هي على سبيل المثال لا الحصر، لكن مضمونها هو نفسه، وما يزيد الأمور تعقيدا هو كون المستقبل ملامحه “ضبابية” خصوصا مع استمرار تأثير النتائج التي تمخضت عن جائحة كورونا، وغياب أي بدائــل حكومية في هذا الصدد، من أجل احتضان العدد الكبير والمتزايد للشباب العاطلين.

الحكومة في الوقت الراهن، تكتفي فقط بسرد النسب المئوية للعاطلين ولا تبادر إلى تقديم خطط وبرامج عملية مباشرة من شأنها تقليص نسب البطالة ودعم الشباب من أجل تحقيق ذاته في الوطن، هذا دون الحديث عن الهجرة المتواصلة للأدمغة والكفاءات العليا الرائدة في مجالات مختلفة، وهي النقطة التي تشكل حقا خسارة كبيرة بالنسبة لبلادنا، لأن المستفيد في مثل هذه المواقف هو بلاد المهجر التي تحتضن هذا المهاجر بكل السبل والأشكال وتحقق من خلاله التنمية داخل حدودها.

وحتى القطاع الوصي يربط بين الشباب ومجال محدود أثره، أي “الشباب والرياضة”، ونحن بهذا الخصوص لا ننكر ما للرياضة من فوائد مجتمعية وإنتاج للمواهب والطاقات، ولكن اهتمامات الشباب بالمقابل لا تنحصر في الشأن الرياضي، الشباب المغربي يبدع في كل المجالات الواسعة الانتشار منها إلى المجالات المعقدة الأخرى التي تحتاج إلى مواهب خاصة و”خارقة”، وهي ذات المواهب التي كلما انعدمت أمامها الفرص اختارت الهجرة نحو أفق أرحب .. فتضيع فرصة بلادنا في كسب رهان الحفاظ على مواهبها وطاقاتها ونستمر في نفس الدوامة .. دوامة “الحريك” أو هجرة قانونية متى ما استطاع إليها المرء سبـيلا.

مــراد بنعلي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.