المغرب الأطلسي

0 2٬838

رشيد بوهدوز : رئيس اللجنة الأمازيغية بحزب الأصالة والمعاصرة

لم يعد المغرب مجرد نقطة جغرافية على خريطة شمال إفريقيا، بل هو اليوم كيان يعيد اكتشاف ذاته العريقة، متجذرًا في تاريخه الأطلسي والإفريقي العميق. لقد تجاوز المغرب تلك النظرة التي طالما ربطته حصراً بالمشرق، معتبراً نفسه مجرد امتداد له. اليوم، وبفضل رؤية استراتيجية وقيادة حكيمة لجلالة الملك محمد السادس، يؤسس المغرب لهويته القومية والوطنية المستقلة، هوية “تامغرابيت” الضاربة في جذور التاريخ الإفريقي المتوسطي والأطلسي، مؤكداً أنه وطن عريق قائم بذاته، له تاريخه ومشروعه الحضاري الخاص ورؤيته الجيوسياسية الواضحة.

وما عزز هذا التوجه نحو تأكيد الذات المغربية العريقة هو الاكتشافات الأثرية المذهلة التي توالت في السنوات الأخيرة. لم يعد الأمر مجرد تاريخ مدون، بل حقيقة ملموسة تثبت أن هذه الأرض لم تكن مجرد محطة عبور، بل مهدًا للبشرية والحضارة. من أقدم إنسان عاقل في جبل إيغود، إلى أقدم حلي في كهف بويزماون وتافوغالت التي شهدت أول عملية جراحية ناجحة على الدماغ، مرورًا بأقدم قرية وأقدم معصرة زيتون، كلها شواهد على أن المغرب لم يكن يومًا هامشًا، بل مركزًا أصيلاً منذ فجر التاريخ، مما يعيد كتابة ليس فقط تاريخ المغرب، بل تاريخ الإنسانية جمعاء انطلاقاً من هذه الأرض.

وهذا البعد الأطلسي ليس مجرد جغرافيا، بل هو جزء من الهوية اللغوية والثقافية. فاسم “أطلس” الذي تحمله السلسلة الجبلية الشامخة والمحيط الشاسع، هو اسم أمازيغي أصيل، وهو “الظلام الدامس”، وهو ما قد يفسر التسمية التاريخية للمحيط بـ”بحر الظلمات”. هذا الارتباط الاسمي يؤكد عمق العلاقة بين الأرض والإنسان والتاريخ في هذه الرقعة الجغرافية، ويربط المغرب عضوياً بالمحيط الذي يحمل اسمه المشتق من لغته وثقافته، وحتى انه كان ارض حضارة اطلانتس لدى القدماء.

إن التأكيد على الهوية المغربية الأصيلة والافتخار بها، يعزز مكانة المغرب كبلد إفريقي متجذر في القارة، وليس مجرد وافد أو ذنب لقارة آسيا. فالروابط التاريخية واللغوية تتجاوز الحدود الحالية؛ فأسماء دول مثل غانا وغينيا قد تجد أصولها في كلمة “أكناو” الأمازيغية، ونهر السنغال نفسه كان يعرف تاريخياً بنهر صنهاجة. هذه ليست مجرد تفاصيل تاريخية، بل هي دلائل على اندماج مغربي عميق في محيطه الإفريقي. وهذا الاندماج ليس مجرد شعور ثقافي، بل يترجم إلى حضور إفريقي وازن ودبلوماسية نشطة وفعالة، جعلت من المغرب شريكاً موثوقاً ومطلوباً للعديد من دول القارة الساعية للاستقرار والتنمية، مغيراً بذلك نظرة الكثيرين إليه من مجرد امتداد للمشرق إلى قطب إفريقي فاعل ومؤثر.

ويتجلى هذا التحول وهذا النفوذ المتجدد في الواقع السياسي والاقتصادي الحالي. فالاجتماع الأخير لوزراء الشؤون الخارجية لدول تحالف الساحل الثلاث: مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر مع جلالة الملك في المغرب، وإطلاق المبادرة الملكية لتمكين هذه الدول الحبيسة من الولوج إلى المحيط الأطلسي عبر البنية التحتية المغربية وميناء الداخلة الأطلسي، يمثل نقلة نوعية ورؤية استراتيجية بعيدة المدى ذات بعد جيوستراتيجي بالغ الأهمية. فهي لا تقدم حلاً اقتصادياً ولوجستياً حيوياً لهذه الدول فحسب، بل ترسخ دور المغرب كفاعل محوري في تحقيق الاستقرار والتنمية ومكافحة التحديات الأمنية المعقدة في منطقة الساحل والصحراء، مقدماً نموذجاً رائداً للتعاون جنوب-جنوب مبنياً على المصالح المشتركة والتضامن الفعلي، بعيداً عن الأجندات الخارجية.

هذه المكانة الإفريقية المتنامية تتكامل مع حضور دولي لافت ونجاحات دبلوماسية متوالية. فالمغرب، بثباته السياسي واستقراره المؤسساتي، وبفضل دبلوماسيته الهادئة، المتزنة والفاعلة، نجح في بناء شبكة واسعة من الصداقات والشراكات العابرة للقارات. وقد اكتسب ثقة القوى الدولية الكبرى التي ترى فيه شريكاً موثوقاً وأساسياً في قضايا الأمن الإقليمي، ومكافحة الإرهاب والتطرف، وإدارة تدفقات الهجرة، وتعزيز الحوار بين الثقافات والحضارات.

وتتجلى هذه الثقة الدولية وهذا الدور المحوري بشكل ملموس في احتضان المغرب سنوياً لمناورات “الأسد الإفريقي”، التي تعد من أضخم التدريبات العسكرية في القارة، بمشاركة قوات دولية وازنة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية. إن اختيار المغرب كمسرح لهذه المناورات الاستراتيجية ليس اعتباطياً، بل هو اعتراف صريح بقدراته التنظيمية اللوجستية والأمنية، وتأكيد لدوره كقطب للاستقرار في منطقة حساسة وجوار إقليمي يتسم بالتقلبات والتحديات المتزايدة.

وعلى الضفة الأخرى من المتوسط، يواصل المغرب نسج علاقات متميزة ومتطورة مع شركائه الأوروبيين، وفي طليعتهم الجارة إسبانيا وفرنسا. تتجاوز هذه العلاقات مجرد الجوار الجغرافي لترتكز على شراكات استراتيجية متعددة الأبعاد، تشمل الاقتصاد والتجارة والاستثمار والأمن ومكافحة الجريمة المنظمة والطاقات المتجددة والتبادل الثقافي والإنساني، وتضامنه مع الجارتين الإيبريتين وتقديمه المساعدة الطاقية يعزز هذا التكامل، والذي ايضا يجسده التنظيم المشترك لكأس العالم 2030. ورغم بعض التحديات الظرفية التي قد تطرأ، أثبتت هذه العلاقات التاريخية قدرتها على التجدد والتطور والتكيف، انطلاقاً من إدراك الطرفين لأهمية التعاون المشترك لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية وتحقيق المصالح المتبادلة.

إن، “المغرب الأطلسي” ليس مجرد استعادة لهوية تاريخية وجغرافية، بل هو مشروع متكامل لمغرب واثق من نفسه، متجذر في إفريقيته، منفتح على محيطه الأطلسي، وعمقه المتوسطي، فاعل ومؤثر في محيطه الدولي. إنه مغرب يبني نجاحاته الدبلوماسية ومكانته الاستراتيجية على أساس رؤية واضحة وعمل دؤوب وقيادة حكيمة، ليؤكد يوماً بعد يوم أنه شريك لا غنى عنه في السعي نحو الاستقرار والازدهار الإقليمي والعالمي، وصديق موثوق للقوى الكبرى، وحليف استراتيجي لجيرانه وشركائه عبر القارات.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.