المسيرة المورية .. من توحيد التراب إلى توحيد الهوية
في 1975، قدم المغرب درسا نادرا في السياسة: شعب يمشي إلى حقه بلا رصاصة، بمصاحف وأعلام، يصل ما قطعه الاستعمار ويربط الشمال بعمقه الصحراوي، ويعيد للسياسة مقامها الأخلاقي. تلك كانت المسيرة الخضراء، بقيادة الحسن الثاني، فعلا رمزيا وسياسيا رتب الخرائط وأغلق سؤال الجغرافيا.
وبعد نصف قرن، ومع ميل الكفة الدبلوماسية لصالح المقاربة المغربية عقب معارك خيضت بحنكة في أروقة الأمم المتحدة، وفي مواجهة محاور مؤدلجة جعلت من الصحراء مسرحا لتصفية الحسابات الأيديولوجية؛ ومع القرار الأممي الأخير، وإعلان جلالة الملك محمد السادس اعتماد 31 أكتوبر «عيدا للوحدة» قبل أيام، يضاف إلى عيد السنة الأمازيغية الذي أعلنه جلالته سابقا، يغدو السؤال أبعد من تثبيت الحدود: كيف ننتقل من توحيد التراب إلى توحيد الحكاية، أي الهوية التي نعرف بها أنفسنا؟
إن المسيرة نحو الذات ليست شعارا يضاف إلى أرشيف الشعارات، بل تغيير في زاوية الرؤية وفي ترتيب الأولويات. المسيرة الخضراء ثبتت حدود الوطن وأغلقت سؤال الجغرافيا؛ وما يلزم الآن مسيرة ثانية هادئة إلى الداخل، إلى ذواتنا وكينونتنا كمغاربة. تبدو، ظاهريا، في الاتجاه المعاكس، لكنها في الجوهر أشد إلحاحا: انعطافة تعيد صياغة العلاقة بين المجتمع ونفسه قبل أن تخاطب العالم، وتستبدل ردود الفعل المتناثرة بسرد جامع يملك مفاتيح تعريف ذاته.
على امتداد سنوات، اشتغلت سرديات مستوردة بعضها أيديولوجي وبعضها عاطفي الطابع على تفكيك شعور الانتماء أو تهميشه؛ حتى بدونا أحيانا كضيوف على أرض نحن من تربتها وجيناتها. هكذا تبنت شرائح بوصلات قادمة من عواصم بعيدة، فباتت تتحرك سياسيا بإيقاع لا يشبه الإيقاع المغربي: تتحمس علنا لملفات لا تخصنا مباشرة، وتغدق التهاني لوقائع خارجية، ثم تتردد أو تشكك أحيانا حين يتعلق الأمر بمنجز دبلوماسي لبلدها، فأسوأ ما يصيب مجتمعا أن يتحول إلى «وكالات داخلية» لخطابات الخارج: تحركها حسابات إديولوجية من وراء البحار أو آلام حقيقية تستثمر خارج سياقها الوطني.
لن يصبح العالم أعدل إذا خسر بلدك توازنه الداخلي، ولن تنصف قضية بعيدة إذا فقدت القدرة على تسمية نفسك من دون حرج.
ليست المشكلة في التعاطف الإنساني وهو واجب أخلاقي بل في انزلاق التعاطف إلى ولاء سياسي يقدم أجندات غير وطنية على أولويات الوطن. هذه المفارقة لا تعالج بالترهيب ولا بالمزايدة الأخلاقية؛ بل ببناء معنى مشترك يجيب، بوضوح وبساطة، عن أسئلة الهوية والوجهة: من نحن؟ ماذا نريد؟ ولماذا يستحق هذا البيت أن نحرسه ويكون الولاء الأول والأخير له؟
توحيد الهوية بالمسيرة نحو الذات ليس ابدا نفيا للتعدد، بل إطار ناظم له. جوهرها الاعتراف بحقيقة أن الأمازيغية تربة تاريخية وقاعدة تأسيسية للهوية الوطنية، لا خندقا لغويا أو اصطفافا ثقافيا أو رافدا من بين الروافد، فهي تربة تنمو فوقها كل الفروع التي نعتز بها: العربية والإسلام، والرافد المتوسطي، والحسانية، والإفريقي، والعبري المغربي. تسمية التربة لا تقصي الثمر؛ إنها تثبت شروط ازدهاره وتمنع تحول الفروع إلى بدائل عن الأصل. بهذا الترتيب نتجاوز ثنائية النقاء المتخيل والذوبان المستسلم في هويات أخرى، إلى معادلة أوضح: صرامة في الأصول وتعريف الهوية الوطنية ورحابة في الفروع والإنفتاح على التعدد؛ نبني أصل عريق يميزنا بين الأمم، وفروع تتسع للإنفتاح والاختلاف.
المسيرة نحو الداخل تصحح سردية “الروافد والفسيفساء” التي تساوي بين الأصل والفرع، وهي تأسيس لوحدة الهوية في الوجدان العام: أننا شعب واحد من الشمال إلى الجنوب. وحين تتكامل طبقتا الأرض والهوية نحصن وطننا من كل نزعات ترى نفسها أكثر تميزا من باقي المغاربة؛ فالشعب الذي يعرف جذوره ويفتخر بها لا يستغل ولا يغتر به، ولا يكون أداة لتنفيذ أيديولوجيات خارجية. هذا هو الرهان الواجب ربحه، ومنها يبدأ كل شيء آخر.
ولكي نربح رهان المسيرة المورية، نحتاج إلى سياسة جريئة وصارمة. أولها، سيادة السردية الوطنية الحقيقية؛ فالحق في تعريف الذات لا يقل وزنا عن الحق في الدفاع عن الأرض. ثانيها، تمييز التعاطف عن الولاء، فيمكن أن نقف أخلاقيا مع المظلوم أينما كان، من غير أن ننيط قرارنا السياسي ومصالحنا الوطنية به، مع مساءلة من يعلن سمو قضايا خارجية على قضاياه الوطنية. ثالثها، ترسيخ أخلاق الاختلاف داخل البيت الواحد، بحيث تتعدد البرامج والمقاربات، لكن تحفظ اللغة المشتركة والمرجعية المؤسسة والانتماء المشترك. رابعها، استقلال القرار الوطني؛ فلا تدار مصالحنا بعناوين مستعارة ولا بقرارات وشعارات قادمة من وراء الحدود. هذه المبادئ لا تصادر النقاش، بل تمنحه أرضا مشتركة يقف عليها الجميع.
وليس من الإنصاف أن تحصر المسؤولية في المجتمع وحده. فقد أسهمت الدولة نفسها، في مراحل سابقة، في تعميق هذا الاغتراب، بل كانت أحيانا المحرك لفصل الإنسان المغربي عن أصوله وهويته.
لقد حدث ذلك عبر تبني سرديات رسمية في الإعلام والتعليم تبجل الوافد وتقلل من شأن الموروث الأصيل، وتصور التاريخ الوطني كأنه مجرد “بدائية” لا حضارة فيها، بينما ينسب كل نبوغ مغربي لمؤثرات خارجية. هذا الفراغ الهوياتي هو ما دفع الكثيرين للبحث عن انتماءات بديلة، مما خلق ولاءات خارجية تتقدم أحيانا على المصلحة الوطنية.
لكن ما نلمحه اليوم مختلف في جوهره. فبعد أن أنتج خطاب الاغتراب ذاك شرائح أضحت تهدد وحدة الوطن ومستقبله، نشهد اليوم عودة هادئة ومنهجية نحو الذات، بدأت منذ اعتلاء جلالة الملك محمد السادس العرش. وهي ليست انغلاقا، بل تأسيس لوطن قوي يستمد مركزيته من داخله، لا من نماذج مستعارة.”
«عيد الوحدة» ليس تاريخا يضاف إلى رزنامة العطل، بل علامة سياسية تؤكد أن ما يكتب في نيويورك يجب أن يقرأ بالمعنى نفسه في الرباط وتيزنيت والعيون ووجدة والناظور: وحدة تصان في القانون الدولي وتتعزز بسردية داخلية متماسكة. من دون هذه السردية سنبدل الأقنعة كل موسم ونستورد قاموسا لكل موجة؛ ومعها نستطيع أن نختلف في البرامج والوسائل من غير أن نختلف على البيت. ليست دعوة إلى رقابة ولا إلى تأميم الوجدان، بل إلى أن نعرف أنفسنا قبل أن نعرف مواقفنا، وأن نفصل بين التعاطف المشروع وتسييل الولاء خارج الحدود، وأن نقول ببساطة: المغرب ليس فسيفساء متساوية الأبعاد، بل بناء واحد متعدد الغرف، له أساس واحد راسخ.
المسيرة الخضراء رتبت الخريطة، والمسيرة المورية ترتب الهوية فتجيب عن سؤال: من نحن؟ وحين يمشي المغرب إلى العالم وهو يشبه نفسه؛ أمازيغي القاعدة، رحيب الفروع، واثق بلا ادعاء بعراقته الضاربة في أعماق التاريخ، لن يحتاج إلى من يتكلم نيابة عنه؛ سيكفيه أن يعرف ذاته كما هي وتتكفل الوقائع بإتمام الجملة. هذه ليست خاتمة، بل افتتاحية فصل جديد… والباقي علينا.
– رشيد بوهدوز؛ رئيس اللجنة الأمازيغية بحزب الأصالة والمعاصرة