كورونا والعودة إلى الذات

0 1٬054

على الرغم من التحدي العسير الذي فرضه انتشار فيروس كورونا المستجد داخل المنظومة الصحية العالمية، إلا أن الإجراء الوحيد المتاح حاليا للتعامل معه ( الحجر الصحي)، قد يكون مفيدا للإنسان من زاوية العودة إلى الذات واسترجاع إنسانية الإنسان المفقودة.

منذ أن اتخذت المعرفة الإنسانية بعدا عمليا، تحول هدف الإنسان إلى التفكير في السيطرة على الطبيعة؛ وهذا ما تجلى بشكل واضح في دعوة فرنسيس بيكون للإنصات إلى الطبيعة، من أجل فهم القوانين المتحكمة فيها، كمدخل للسيطرة عليها. ليتم الإعلان عن التزاوج بين المعرفة والسلطة، هذا التزاوج استثمر في إتجاه واحد هو تسريع وثيرة الإنتاج، التي سوف تستفيد من التطور الهائل للتقنية، ليتحول الإنسان بفعل ذلك حسب وصف الدكتور محمد مزوز إلى ” باحث عن المتعة التي تقدمها التقنية في كل مكان وتمارس عليه عمليات إغراء شعورية أو لاشعورية”، وأصبح بذلك المحفز الأساسي لعملية الإنتاج هو تقديم كل شيء على أساس أنه متعة وليس ضرورة.

أمام هذا الكم الهائل من المتع الذي وفرته عملية الإنتاج المستفيدة من تطور التقنية، تم سجن الإنسان داخل عالم المتعة ولا يستطيع أن يتجول خارج أسوارها. المتعة التي تحاصره من جميع الجوانب، والتي يهرول اتجاهها كلما توفر له القليل من الزمن خارج كده اليومي الطويل، الذي يزداد يوما بعد يوم، على أمل الحصول على أكبر قدر ممكن من المتعة؛ حيث تتحول هذه الأخيرة هي المتنفس الذي يحقق للإنسان تفرده وعزلته الأنطولوجية. ولعل هذا ما يمكن أن نفسر به اليوم صعوبة إنضباط الإنسان للدعوة إلى الحجر الصحي الطوعي، وتتفاوت طرق مقاومة ذلك بين المجتمعات الغربية والشرقية، فلولا سن قوانين وإجراءات صارمة، لما استطاع الأنسان أن يلتزم بالمكوث في منزله، حتى لو كلفه ذلك حياته!!!

ومن بين القيم التي أفرزتها مجتمعات البحث عن المتعة والتشجيع عن الإقبال عليها، سقوط الإنسان من مستوى الكائن الإجتماعي إلى الكائن المتوحد بلغة “لوكاتش”، لقد أصبح كائنا متفرداً، أجهز عن العلاقات الإجتماعية كإحدى السمات البارزة المحددة للوجود البشري. لذلك سوف يتعاطى الإنسان مع الدعوة إلى الحجر الصحي بمنطق الحرمان من تلك العزلة الأنطولوجية التي دعت إليها الديكارتية وفلسفة الذات بصفة عامة، ومن ذلك الفائض في المتع الذي وفرته متلازمة الإنتاج والإستهلاك. لقد تغير منطق التعامل مع الزمن، الأيام الماضية تميزت بندرة الزمن ووفرة المتعة، أما إبان زمن كورونا فيتميز بوفرة الزمن وندرة المتعة. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإنسان لم يعد بمقدوره العمل على خلق متع بديلة داخل البيت، لأن براديغم الإستهلاك خلق لديه شرخا عنيفا ما بين الواقعي الذي تحول لديه إلى افتراضي وما بين الإفتراضي الذي تحول إلى واقعي.

لكل ذلك، يمكن القول أن فترة الحجر الصحي قد تكون فرصة هائلة أمام الإنسان من أجل إعادة النظر في العديد من المسلكيات، التي تحولت بفعل سلطة العادة وبتحفيز من ثقافة الإنتاج والإستهلاك، إلى قانون صارم يحكم يومي الإنسان. ولا يمكن للإنسان أن يعيد التفكير في سلوكه اليومي، وأن يستوعب الخلفية الفلسفية الثاوية خلف ما نستهلكه للضرورة وما نستهلكه من أجل الإستهلاك، إلا بعدما أن تتاح له الفرصة للخروج من سجن أو كهف سلطة العادة، حينئذ يستطيع أن يعود إلى ذاته.

جمال مكماني

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.